بعد تخلي العالم عن قاعدة الذهب بعد الحرب العالمية الثانية تحولت العملة من مرآة للذهب ( أي حق تحويلها لذهب ) إلى مرآة للاقتصاد ( أي حق ترجمتها إلى سلع وخدمات من الاقتصاد )، وتحولت بالتالي العملات التي تمنحها بلد ما للآخرين إلى دين على اقتصادها. ويمتلك الدولار حالياً ناصية النقد العالمي، وتحولَ إلى عملة دولية. وقد ظهرت بوادر هذا الوضع عندما بدأت تباشير نهاية الحرب العالمية الثانية وخروج الحلفاء منتصرين. خرجت الولاياتالمتحدةالأمريكية التي لم تصب أرضها برصاصة واحدة من الحرب باقتصاد قوي على خلاف باقي دول الحلفاء ناهيك عن دول المحور التي دُمرت اقتصادياتها. كانت دول العالم حينها في حاجة ماسة للسلع المختلفة لبناء اقتصادها والتي لايستطيع الوفاء بها في ذلك الحين إلا الاقتصاد الأمريكي صاحب الهيكل الإنتاجي السليم والنشط، واحتاج العالم إلى العملة الأمريكية لدفع أثمان هذه السلع، وتنافس تنافساً محموماً على حيازة الدولار، وشجع هذا الوضع الولاياتالمتحدة بداية على طبع دولارات تفوق الغطاء الذهبي لديها ( أي بدون غطاء ذهبي )، ثم تشجعت أكثر وأعلنت للعالم تخليها عن قاعدة الذهب ( أي عدم تغطية الدولارات المصدرة بذهب )، مع منح ضمان للعالم بحق من يحمل الدولار في شراء أية سلعة أو خدمة من الاقتصاد الأمريكي، وتحولَ الاقتصاد الأمريكي نفسه إلى ضمانة للدولار بعد أن كانت ضمانته الذهب. هذا التحول لم يكن حينها يتضمن أية مشكلة، فالأمر يتعلق بآليات السوق، وتغير مجريات الاقتصاد العالمي. إلا أن طابعة بنك الاحتياطي الفيدرالي بدأت تنشط من ذلك الحين في طبع المزيد من الدولارات بعد أن شجع العالم الولاياتالمتحدة على ذلك بتنافسه على الدولار خلال العقود التالية للحرب العالمية الثانية لاتخاذ معظم دول العالم الدولار كاحتياطي بدلاً من الذهب وقبوله به كوسيلة دفع وإبراء للذمة، وأصبح أقل الاحتمالات حدوثاً لحاملي الدولارات إقبالهم على استبدالها بسلع من الاقتصاد الأمريكي. طبعت الولاياتالمتحدة المزيد والمزيد بعد أن وجدت العالم يمتص هذه الأوراق المطبوعة ولا يطالبها بسلع من اقتصادها، ووفر ذلك للولايات المتحدة مزايا في الحصول على موارد اقتصادية من العالم بلا مقابل حقيقي بمجرد توفير أوراق نقدية للتعامل، في الوقت الذي لا تخسر تجاه هذه المبادلة غير العادلة إلا أثمان أحبار طابعة الاحتياطي الفيدرالي، وأصبحت الولاياتالمتحدة تتمتع تجاه العالم بما يشبه الحق في فرض ضرائب عليه مقابل استخدام الدولار في المعاملات الدولية. ولذلك فإن مديونية الولاياتالمتحدةالأمريكية للعالم تعتبر جزءاً عضوياً في النظام النقدي العالمي الراهن، فتوفير الولاياتالمتحدة الدولارات للعالم يتطلب أن تصبح مدينة للعالم بهذه الدولارات، ولو طالب العالم الولاياتالمتحدة بحقوق المديونية هذه - التي بلغت حوالي 13.7 تريليون دولار أو حوالي 95% من الناتج المحلي الإجمالي – لبيعت الولاياتالمتحدةالأمريكية في السوق العالمي، إلا أن الولاياتالمتحدة تراهن على عدم مطالبتها بهذه الحقوق؛ إما لعدم سعي العالم إلى ذلك وإما لإجبار الولاياتالمتحدةالأمريكية العالم على عدم فعل ذلك، والمحصلة واحدة وهي حصول الولاياتالمتحدة باسم " الدولار " على ثروات العالم الحقيقية ( العينية ) بلا مقابل تدفعه من اقتصادها، وهو ما يؤلف لقصة جديدة ومريبة على الاقتصاد العالمي وهي قصة الدولار " السارق " التي انتهت بأزمة مالية عالمية تمسك بتلابيب الاقتصاد العالمي وورطته مع الدولار، ولكن هذه النهاية ليست آخر فصولها، ولا نستطيع توقع باقي الفصول حالياً. ولكن ما يمكن تأكيده هو أن النظام النقدي العالمي الراهن لن يستمر، إلا أننا لا نستطيع الجزم بالشكل الذي سيظهر به ولا بمتى سيظهر، ما يمكننا فعله فقط هو تحديد ما يجب عليه أن يكون، وهو ما نصبو إلى توضيحه لاحقاً بمشيئة الله. *أستاذ الاقتصاد والمالية العامة المساعد/ جامعة شقراء