"سفينة المعتوهين" هو اسم وضعه رجل دين سويسري قبل 515 سنة عنواناً لكتابه الذي وجه فيه انتقادا لاذعا إلى الفساد الذي ساد الكنيسة الكاثوليكية آنذاك. لقد تنبأ بأنه سوف تحلّ بها كارثة. وبالفعل، فقد وقعت الكارثة حين قسّم مارتن لوثر الكنيسة وأحدث الإصلاح الكبير. وقد استخدمت هذه التسمية لوصف الفترة الواقعة بين الحربين - حرب يونيو عام 1967 وحرب اكتوبر عام 1973، تلك السنوات الست التي طغى فيها الشعور بالنشوة الحمقاء الدولة كلها. وكان البعض يردد "لم نعش أبداً أفضل من هذا الوضع". يستحق العهد الحالي نفس تلك التسمية: "سفينة المعتوهين 2" أما شعار "سفينة المعتوهين 1" فقد أطلقه موشيه ديان، في حينه، الذي كان الضابط الأول على متنها، إلى جانب القبطان غولدا مئير. وأعلن ديان حينها، الذي كان أقوى مسؤول في الدولة، "إذا كان عليّ الاختيار بين شرم الشيخ من دون سلام وبين سلام من دون شرم الشيخ، فسأختار شرم الشيخ". بعد حين، بدت هذه المقولة كمقولة مجنونة. من يتذكر اليوم "أوفيرا" - الاسم الذي أطلقناه على شرم الشيخ؟ لقد خرجت سفينة "المعتوهين 1" في رحلة بحرية تحمل في طياتها كارثة غداة حرب يونيو، بينما كانت الإمبراطورية الإسرائيلية الجديدة تمتد من جبل الشيخ إلى رأس محمد، جنوبي شرم الشيخ. كان يبدو النصر الذي أحرزه الجيش الإسرائيلي بستة أيام على ثلاثة جيوش عربية، بعد أسابيع من الخوف والقلق، بمثابة أعجوبة من السماء. وغرقت الدولة في وابل من أناشيد وألبومات وخطابات الانتصار. وغرق الجميع في نشوة النصر ابتداء من زعماء الدولة وحتى آخر المواطنين (اليهود). وقد شوشت النشوة الأدمغة والمنطق، ومنعت إجراء أي نقاش عقلاني. ثمالة النصر لم تتخط جنرالات الجيش. فقد قال أريئيل شارون إن الجيش الإسرائيلي يمكن أن يصل في غضون أسبوع إلى طرابلس الغرب، العاصمة الليبية. وكان هذا الأمر مفروغا منه. لمن لم يكن هنا، أو كان فتى حديث العهد لكي يتذكر، لقد ساد البلاد جوا من الأمن الشخصي التام، أدى إلى سكون عارم. كل شيء كان على ما يرام ، ازدهر الاقتصاد، ضربت أول المستعمرات جذورها في الأرض. لم يكن هنالك أي ضغط على إسرائيل لإرجاع الأراضي التي احتلتها. وصنعت الجامعة العربية معروفاً مع إسرائيل وقبلت في الخرطوم "اللاءات الثلاث": لا سلام ، لا اعتراف ، لا مفاوضات مع إسرائيل. حيث تمتعت إسرائيل الصغيرة والجريئة بتأييد العالم. كم هو جميل أن تكون إسرائيلياً تبرز جواز السفر الإسرائيلي في كافة المعابر الحدودية في العالم آنذاك. مؤخراً قام ألوف بن من صحيفة "هآرتس" بلفت انتباهنا إلى تسجيل صوتي للرئيس الاميركي ريتشارد نكسون. كان هذا الرئيس، كما هو معروف، يسجل كل محادثاته سرًا، وقد قام المسؤولون عن تركته بنشر الكثير من هذه التسجيلات مؤخراً. من بين هذه التسجيلات، تسجيل للقاء عُقد بين غولدا مئير ونيكسون في بداية العام 1973 أي قبل أشهر من حرب أكتوبر. أوضح نيكسون وهنري كسنجر لغولدا مئير أن الرئيس المصري أنور السادات، مستعد لصنع السلام مع إسرائيل مقابل الانسحاب الكامل من سيناء. نظرت غولدا مئير إلى هذا الاقتراح بازدراء، وقالت لنيكسون أن المصريين غير قادرين على مهاجمة إسرائيل ، ولذلك لن يجرؤوا على القيام بذلك أيضا. لقد أثار هذا الموضوع اهتمامي بشكل خاص لأنني قلت في ذلك الحين في الكنيست إن المصريين سيشنون حربا حتى إن لم يكن لديهم أي احتمال في النصر. لقد توصلت إلى هذا الاستنتاج بعد أن التقيت شخصيات مصرية بارزة، أقنعوني تماما بأن مصر غير قادرة على احتمال الوضع القائم ، الذي يجمّد الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم. لقد قالوا لي إن مصر مستعدة لدفع ثمن باهظ من أجل كسر الجمود فقط وإحداث تحرّك. أما غولدا فلم تفهم ذلك. لقد كانت امرأة قوية ولكن متخلفة، تفتقر إلى أي حساسية لمشاعر الغير، ولم تحلم بإرجاع أراض مقابل السلام. لم تفكر بالفلسطينيين أبدا، بل إنها لا تعترف بوجودهم. رئيسة الحكومة الاسرائيلية غولدا مئير عام 1973 لقد أراد ألوف مقارنة حديث غولدا مئير مع نيكسون بحديث نتنياهو مع أوباما، وهو محق في ذلك. فنحن نعيش اليوم وضعاً مشابهاً. ها نحن نبحر مرة أخرى في سفينة المعتوهين بسعادة، نشعر بأننا في أفضل حالاتنا اقتصادياً وأمنياً، خاصة بعد تجاوزنا الازمة المالية، والانباء عن تزايد ونمو تعاملنا التجاري مع الهند والصين، اضافة الى رضا الكثير من الاسرائيليين عن وضعهم الاقتصادي الشخصي بحسب العديد من استطلاعات الرأي، وتوقعهم بأن يكون المستقبل أكثر إشراقاً. أما من الناحية الأمنية فيبدو أن وضعنا ممتاز جداً. فقد توقفت العمليات الانتحارية تماماً، والحدود الشمالية تكاد تكون مستقرّة، والصدامات على الحدود مع غزة ليست مقلقة. فلا "حزب الله" ولا "حماس" معنيون بالمواجهة. صحيح أننا نستنفر العالم كله ضد خطر القنبلة النووية الإيرانية، إلا أن المواطن الإسرائيلي ليس قلقا بالفعل. إنه يعلم أنه حتى لو حاز الإيرانيون على قنبلة، فهم لن يجرؤوا على استخدامها. ومن الناحية السياسية، فإن السماء هي حدود إنجازاتنا. لقد أسقطنا باراك أوباما عن الحلبة في عدة جولات. ومن الحماقة معاداة هيلاري كلينتون وجورج ميتشل. فبناء المستعمرات، الذي لم يتوقف بالفعل حتى ولا للحظة واحدة، آخذ بالتزايد، بمساعدة آلاف العمال الفلسطينيين إذ يشكل هذا مصدر رزقهم الوحيد. كما أن حكومة إسرائيل تسيطر على واشنطن بشكل لم يسبق له مثيل. فالكونغرس الجديد وفيّ لها أكثر من السابق. لقد اتخذ لتوّه الكونغرس، الذي انتهت فترة توليه، قرارا بالإجماع لمعارضة الإعلان عن إقامة دولة فلسطينية. وبعد هزيمة أوباما النكراء في انتخابات منتصف فترة رئاسته، يجب على أوباما أن يفكر بالانتخابات المقبلة للرئاسة بعد سنتين. ومن الصعب أن نؤمن أنه سيجرؤ في هاتين السنتين على استفزاز اللوبي الإسرائيلي القادر على كل شيء، الذي لا يتكئ على التنظيمات اليهودية وعلى ملايين المسيحيين الإنجيليين فحسب، بل كذلك على اليمين الذي تتزايد قوته. فليقل أوماما ما يريد، في ساعة الامتحان سيضطر إلى فرض حق النقض- الفيتو في مجلس الأمن على أي قرار لا يروق لحكومة إسرائيل. لن يكون لديه أي خيار. وسيزوّد الجيش الإسرائيلي بالطائرات التي يرغب بها أيضا، وحتى أكثر من ذلك. ولمن كانت لديه أوهام - من الإسرائيليين وغيرهم على حد سواء - يبدو أنه قد استيقظ الآن. نتنياهو لا يريد السلام، ولا المفاوضات السلمية، ولا أي تحرك كان نحو السلام. فكلمة سلام غير موجودة في قاموس نتنياهو، ليس لأن لديه ائتلافاً يمينياً متطرفاً مليئاً بالعنصريين الذين يُسعدون باستضافة الفاشيين من جميع أنحاء العالم ، وليس من سبب الرعب الذي يبثه المستوطنون في قلبه ، بل لأن نتنياهو ذاته لا يرغب أيضا بأن يذكره التاريخ كمن تخلى عن أجزاء من إسرائيل وقدمها للعرب. رغم كل الفروق، إلا أن هناك وجوها شبه كثيرة بين نتنياهو وغولدا مئير. صحيح أنه لا يوجد لدينا موشيه ديان ثانٍ لا باراك بمثابة قطعة خشب مقارنة بحضور سلفه المميز صاحب العصبة السوداء، غير أن أفيغدور ليبرمان يملأ هذا الفراغ بكل رضى. كل شيء على ما يرام، ولا حاجة للقلق. لا تصنع النشوة في هذه المرة ألبومات نصر وأناشيد مجد، بل وابل من اقتراحات القانون التي لم تخجل منها جنوب أفريقيا في فترة الأبارتهايد، وإعلانات لحاخامين يتفاخرون باهتمامهم ب"طهارة العرق" (ولن نذكر من أين جاء هذا المصطلح). هذه النشوة تؤدي إلى أعمال هدفها واحد -على ما يبدو- وهو الإغضاب والإهانة. وهناك مثال بارز، فقد أعلنت إسرائيل الاسبوع الماضي أنها تنوي توسيع فندق "الأقواس السبعة" الواقع على قمة جبل الزيتون، والتابع للعائلة المالكة الأردنية والذي تمت مصادرته من قبل الوصي على أموال الغائبين. يبدو هذا كعمل طفل يلقي إصيصا غالي الثمن على الأرض ويصرخ "ماذا يمكنكم أن تفعلوا لي؟" لقد غرقت "سفينة المعتوهين 1" في اكتوبر وغرق معها 2600 شاب إسرائيلي، وذلك حين عبر المصريون "العاجزين" القناة، وانهار خط بارليف التابع للجيش غير المهزوم. يمكن تحديد الدقيقة بالضبط التي وصلت فيها النشوة إلى نهايتها. وظهر عشرات الجنود الإسرائيليين وهم يركعون على الأرض خائفين ومذلولين حتى التراب، عيونهم حمراء، بينما يقف رجال سوريون أشداء فوق رؤوسهم. لكن كانت هذه نهاية السوبرمان الإسرائيلي. سفينة "المعتوهين 2" سوف تغرق هي أيضا. لا يمكننا أن نعرف متى سيحدث ذلك. هل ستُحدث حرب جديدة تدميرا في مدن إسرائيل؟ هل ستندلع ثورة في العالم العربي؟ هل سيحدث تحوّل سياسي في العالم؟ هنالك فرق مهم واحد بين السفينة الأولى والثانية، في عصر السفينة الاولى كان العالم كله يؤيدنا، أما الآن فكثيرون في العالم يمقتوننا. إن آراء 26 رئيسا من رؤساء الدول الأوروبية السابقين، الذين طلبوا الاسبوع الماضي ممن خلفهم تغيير نظرة أوروبا لإسرائيل إلى الأسوأ، هي إشارة تنبئ بالشر. عندما ستحل الأزمة التي ستحل لا محالة، لن يقف العالم إلى جانبنا. سوف يقف إلى جانب الفلسطينيين. لقد قال أحدهم مؤخراً إن الدعم غير المحدود الذي تمنحه الولاياتالمتحدة لإسرائيل، أشبه بالمساعدة على الانتحار، الذي يُعتبر جريمة وفق القوانين الإسرائيلية أيضا. الانتحار بحد ذاته مسموح حسب قوانيننا. من يريد الله ضياعه يبهر بصره في البداية. أتمنى أن نستيقظ قبل فوات الأوان. أوري أفنيري "كتلة السلام"