ماذا تقرأ في بيان وزارة الداخلية الأخير؟ من الطبيعي القول بأننا اعتدنا على البيانات للسلطات الامنية حول معركتها مع الارهاب وعناصره، وكنا وما زلنا نشعر بحجم إنجازاتها ونجاحاتها، الا ان البيان الأخير في تقديري جاء ليمثل انعطافة ملفتة في التعاطي السعودي مع معركته ضد العناصر الراديكالية وخلاياها، وأعني به هنا كشف وتوضيح المعلومات وخلفياتها، فالمرحلة والظرف واللحظة التاريخية وتوجهات القيادة السعودية التي رسخت مفهوم الشفافية عوامل دفعت بالامور الى هذا المنحنى. على ان التطور الملفت في الحدث يعني كشف كافة الاوراق للاعلام والمتلقي ، وهذا يعني احترام عقلية المواطن والمواطنة وكشف حقيقة الخطر المحدق بهما ، ما يعني ان ثمة رغبة في التفاعل مع المعطيات الراهنة ومواءمة لغة العصر. كنا في الماضي ربما نكتفي بالعناوين وبعض الاشارات والمعلومات لأنها ربما كانت تفي بالغرض حينذاك،غير ان الوقت الحالي يختلف كلية كونه يتطلب شيئا من التحول والتطوير والتفاعل والمواكبة، فلحظنا تغير اللغة وتنوع الاساليب والآليات والتكتيكات، ما ادى فعلا الى نهج جديد دفع بالاجهزة الامنية من ان تتعاطى معه بنفس الرتم والفاعلية. السعودية وبحق نجحت في معركتها الأمنية ضد القاعدة سواء في مواجهاتها الميدانية أو في ضرباتها الاستباقية، إلا انه على الصعيد الفكري فما زالت المحصلة اقل من المأمول بكثير وتحتاج بلا أدنى شك لجهود مضاعفة مثيلة بالجهد الأمني أو أكثر فالسعودية كحكومة استشعرت بالتأكيد ضرورة استيعاب المرحلة والاندماج معها وكشف الحقائق ومخاطر هذه التنظيمات حتى يكون المجتمع على بصيرة فاتضحت الصورة، ومشهد الصراع مع القاعدة لم يعد ميدانيا بل انتقل الى الفضاء الواسع؛حيث الحرب المعلوماتية التي ما برحت ان اكتسحت الساحة فباتت المواجهة مكشوفة ومعلنة. استغلت القاعدة الشبكة المعلوماتية لترويج مشروعها ولاستقطاب عناصرها، وقد نجحت فعلا، الا ان السلطات السعودية تفوقت وبامتياز في اختراق جدرانها وعوالمها ، لتكشف عن خلايا متعددة تنوي القيام باغتيالات وباستهداف مسؤولين عسكريين واعلاميين، فضلا عن استهداف منشات نفطية وصناعية،ناهيك عن عشرة مخططات كانت على وشك التنفيذ. والحقيقة لابد من الاشادة هنا بقدرات الاجهزة الامنية في إحباط عشرات العمليات الارهابية في السنوات الماضية ، والله سبحانه وتعالى وحده الذي يعلم ماذا ستكون عليه الصورة من مشاهد ومآس وخسائر وأضرار في حال تم القيام بتنفيذها. غير ان الملفت هذه المرة يكمن في اعتقال مستخدمي المعرفات في الإنترنت ودخول المرأة كعنصر مستخدم ومحرض، وهذه مرحلة متقدمة في عملية المواجهة . ولعل إعلانها بهذه الطريقة كان بمثابة رسالة لمئات المؤيدين والمتعاطفين مع التنظيم للتوقف عن نشاطاتهم والا سيكونون عرضة للمساءلة . موقف كهذا يوضح بجلاء الدور الحقيقي للحكومة في ملاحقة اشباح الانترنت ومحاسبتهم. كانت اهمية البيان تكمن في تحذير مستخدمي الانترنت لاغراض إرهابية، وانه باستطاعة الاجهزة الامنية الوصول اليهم برغم محاولات الاختباء وراء اسماء مستعارة وتقديمهم للعدالة. على أي حال ، السعودية وبحق نجحت في معركتها الأمنية ضد القاعدة سواء في مواجهاتها الميدانية أو في ضرباتها الاستباقية، إلا انه على الصعيد الفكري فما زالت المحصلة اقل من المأمول بكثير وتحتاج بلا أدنى شك لجهود مضاعفة مثيلة بالجهد الأمني أو أكثر لأن الفكر لا يواجه إلا بفكر. والاعتقالات الاخيرة كشفت عن أن ثمة خللًا يتعلق بالمواجهة الفكرية والقدرة على تحصين المجتمع من طروحاتها المتطرفة وتحديدا الشباب الذين تحولوا الى ادوات تفخيخية في التنظيم. على ان القاعدة بعد التضييق عليها في السعودية لم تلبث ان بحثت عن مناطق اخرى، فاختيارها لليمن لم يكن عبثاً بل له مغزى ودلالة، كونها تستقر في المكان غير المستقر، بمعنى أن البيئة غير المستقرة سياسيا تعزز نمو هذه الحركات.. ولو تأملنا دولًا كأفغانستان والصومال والعراق واليمن لتبين لنا فلسفة تواجد هذه التنظيمات، كما أن هذا التنظيم له أجندة سياسية تهدف في المقام الأول إلى الاستيلاء على السلطة، ولعل أدواته ووسائله ترتكز على اختراق العناصر الشابة وتجنيدها واستغلال ظروف وأحداث المنطقة للتغرير بهم والاستفادة منهم من اجل بناء شبكته البشرية في حين أن أسلوبه التكتيكي في ضرب اقتصاديات الدول المراد زعزعة أمنها يتمثل في استهداف المنشآت النفطية،فمن الطبيعي انه عندما يُضرب الاقتصاد يتزعزع الأمن وينهار النظام. على أن أيديولوجيا القاعدة كانت قد اخترقت نسيج مجتمعنا المحافظ والمسالم باستخدام «توظيف النص الديني» لأهداف سياسية، فاستغلت ذلك المناخ الديني وتلك البيئة المحافظة لزرع أفكارها في مجتمع يحمل الكثير من الاحترام والتقديس لكل ما هو ديني. ولعل خطورة الايديولوجيا «الدينية الراديكالية» حين تحليلها معرفياً، تجد أنها تنطلق من أرضية «رفض الآخر» و«سلوك الرفض» مستندة إلى ذاتٍ انغلاقية، لا تحلم إلا بصورة «الماضي المختزل في ذهنها» ولا يمكن لها التكيف أو التعايش مع ما حولها بل تنزع إلى التقوقع والجمود، محاولة جذب المجتمع للانخراط في مشروعها أو دعمها والتعاطف معها على اقل تقدير، ما يعني أن ثمة تأثيرا على النسيج المجتمعي، وإن ظل محدودا ، ولكن خطورته تكمن في استمرارية نموه وتشعبه. والحقيقة أننا لم نكن بحاجة إلى تلك الحادثة التي تمت بالصدفة عام 2003، ، لنكتشف بأن لدينا فكرا متطرفا خطيرا بات منتشرا ومتغلغلا في نسيجنا المجتمعي ، كما أن الشجاعة الأدبية تقتضي منا الاعتراف بأننا ساهمنا بدور ما في ظهوره من دون أن نعلم، فالمؤسسات الحكومية ذات العلاقة لم تكن منتجة في احتضان هؤلاء الشباب الذين انزلقوا إلى عالم ضياع الذات، كما أن الرعاية الأسرية لم تكن فعالة بالقدر الذي ينقذ هؤلاء الشباب من الولوج في عالم القطيعة مع عالمهم وبيئتهم وأسرهم. ولعل بيان الداخلية الأخير مؤشر جديد لاسلوب التعاطي مع خفافيش الانترنت الذين عاشوا ردحا من الدهر بعيدا عن المساءلة القانونية، وكان لابد من ثمة لحظة تقول فيها العدالة كلمتها ، ويبدو انها قد حانت. غير أن سقوط معتنق هذا الفكر في يد العدالة لا يعني بالضرورة تلاشي الفكر ذاته، ولذا فإن الايديولوجيا لم تنته ولن تنتهي، ما لم نواجهها بأسلوب نقدي معرفي، وليس بإنتاج مقولات ذات طرق دفاعية وتبريرية، واجترار آراء مستهلكة، وإنما بالتحول من مسألة الدفاع عن الذات إلى فعل يمارس النقد. أي نقد لأدوات وآليات ومضامين هذا الفكر من حيث اللغة والتوجه والأداة والمفهوم والرؤية والمنهج، فالفكر المستنير المعتدل في نهاية المطاف هو السلاح القادر على تفنيد تلك الطروحات المتشددة وبالتالي اقتلاع جذور هذا التنظيم. وهي غاية الجميع، وإن كانت ليست يسيرة على أي حال!!