«الحب» كلمة من نور، صنيعة الله في خلقه لطرد الأوهام والشرور، محلقة في السماء تردد أغنية ترقص على أنغامها طيور المحبة والسلام، النفس المُحبة عرفها الإنسان منذ أن دبّت الحياة على الأرض، وملأت الدنيا بالقسمات والمعاني الريحانية الجميلة، وطوقت بثور الكراهية بعلامات مستمدة من شجرة المعصية التي أخرجت أبوينا آدم وحواء من الجنة وألقت بهما عليهما السلام في اختبار الأمانة على الأرض التي حملها الظلوم الجهول. «الحب» كلمة ساحرة المعاني والمدبرة لقدسيات السلوك، ومُفرزة كريات الدم الحمراء والبيضاء، لغسل الأجساد والحواس من سموم النظرات والمشاعر، صديق للبيئة ترقص على نسائمه الطيور والأشجار، وتُغدق عليها مكونات النمو الطبيعي والنشوة بالأمل. «كلنا ذاك الطفل سنقف على أبواب المدينة «ننتظرك» لأنك احترمتنا فاحترمناك، وكنت صادقاً معنا فصدقناك، وسعيت في الأرض عماراً ونماءً فشاهدناك، ولأنك أحببتنا فأحببناك». «الحب» سعادة ترتعش وكنز ثمين يودعه الله النفوس الكبيرة والحساسة، والحب الذي لا يتجدد كل يوم وليلة يتحول إلى شكل من قوة الاستمرار، وهذه في وقتها لا تلبث أن تنقلب عبودية، كما قال جبران خليل جبران، والذي قال أيضاً: أنت عبد لمن تحب لأنك تحبه، وأنت عبد لمن يحبك لأنه يحبك، والمحبة لا تُعطى إلا نفسها ولا تأخذ إلا من نفسها. نحن كمسلمين مؤمنين، كلنا عبيد لله الخالق سبحانه وتعالى لأننا فُطرنا على حبه حباً عظيماً طاهراً أكبر من أنفسنا وكل من يحيط بنا، ونُحب أنبياءه ورسله بمحبة تجلت في الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم الذي سكب في أنفسنا نور الإيمان وصفاء العقيدة والمعتقد. كيف يشعر الإنسان بفيض محبة الناس له قبل أن يبادر بغمرهم بمحبته؟ وكيف يترك الأثر في الأسرة والصديق والجار والزميل، وحتى فيمن يتعامل معهم ولو لمرة واحدة وفي لحظة عابرة؟ عيون الناس تقرأ نبض القلوب وتشم رائحة دفء المشاعر قبل أن تنطق بها الشفاه، قلوب الناس هي الدالة وعقولهم هي الراسمة، وعيونهم وشفاههم وألسنتهم هي أدوات التعبير الخالدة التي أحسن الله بها خلق وخلُق الإنسان. قلوب الناس لا تباع وتشترى مهما سُيرت أجسادهم مغلوبة بغير إرادتها، فالمحبة لا يمكن أن تكون دون أسباب، والكراهية لا تتموضع في النفس دون سبب، فالجروح تحرق المحبة وتنهض بنواميس الكراهية، وتضميدها يلاطف سويداء القلب فيزرعها في الجسد وتتحرك في جداول الشرايين لتغذي الحواس بدم طاهر لتزهو بورود تعيد لها البهجة والأمل. لن استشهد بحديث العشاق وأشعار المحبين ومواويل الفساق، ولن أخوض في بحور حب الرجل للمرأة والمرأة للرجل فهذه الدجى، تاه فيها من تاه وضاع فيها من ضاع وكذب فيها من كذب، وصدق فيها من صدق، هذا النوع من الحب بحر لجّي اكتنفه من الضربات الطائشة والمتقنة ما يكفي، افتحوا الكتب واقرأوا قصص وأشعار العشاق، وسترون بنت النور كيف تحولت إلى ظلام، والرجل المفتول الجذاب الذي شنق نفسه لخيانة حبيبته، والحبيبة التي تصوفت بخزعبلات جفاء وقسوة قلب الحبيب ونكرانه للجميل. لن أقسو عليكم بقصة حب محبطة، ولا بدربكة أمام أبواب عاشقين أو كارهين، سأسلك معكم دروب الفضاء الواسع للحب البريء الذي يتنفس هواء خالياً من ملوثات صنائع كاميرات التصوير وخطب وأشعار المديح الخاوية المصابة بفقر دم صدق المقصد والغاية، وحولت القصائد إلى أجساد محنطة يدب فيها صوت دون شعور بالحياة. سأحدثكم عن طفل اعتاد أن يرى في المنزل مجموعة من أصدقاء أبيه، قبلوه في المرة الأولى ورحبوا به في الثانية، ولاطفوه في الثالثة، وفي المرة الرابعة أخذ يأوي إلى الحضن الدافئ، والأيادي الناعمة والقلب الحنون، والنظرات المتسقة مع المشاعر والأحاسيس، ابتسم الطفل عند مدخل مجلس أبيه وترك الجميع وأوى إلى من خفق له قلبه وحنت إليه نظراته فاندفع إلى يديه وسكن على صدره يشتمّ رائحة الحب الزكية التي سكنت قلبه البريء في المرات الأولى والثانية والثالثة، وعندما لم يره في مرة بعد أن ألقى نظراته المسرعة على أصدقاء أبيه، ورغم تعالي أصوات الأصدقاء بمناداته، إلا أنه عاد إلى أمه مسرعاً وقال لها صديق أبي ليس معهم!! وفي هذا السياق، عندما شاهدت الملك عبدالله بن عبدالعزيز في الاحتفال الشهير بالقصيم يحتضن أطفال شهداء الواجب بمشاعر أبوة حانية، وحب دافئ غسلته عيون الملك بدموع خالدة، تذكرت ذاك الطفل الذي عاد لأمه مسرعاً بعد فقدانه صديق الحضن الدافئ، وأقول والملك غائب عنا في رحلة استشفائية، كلنا ذاك الطفل سنقف على أبواب المدينة ننتظر والدنا وقائدنا عبدالله بن عبدالعزيز مجرداً من الألقاب، عائداً لوطنه بسلامة من الله يحضننا ونحضنه، يبتسم لنا ونبتسم له، يحيينا ونحييه، لأنه احترمنا فاحترمناه، وكان صادقاً معنا فصدقناه، ونطق بالحق ففهمناه، وسعى في الأرض عماراً ونماء فشاهدناه، ولأنه قبل هذا وذاك أحبنا فأحببناه والمحبة تضمنا إلى قلب عامر بالحب.