ما تطرحه الولاياتالمتحدة بخصوص العلاقة بين حساب المعاملات وسعر صرف العملة حقيقة اقتصادية معروفة. فطلب الأمريكيين على البضائع والأصول الصينية مثلاً يؤدي إلى عرض الدولارات وطلب اليوان والعكس بالعكس في حالة شراء الصينيين للبضائع والخدمات والأصول الأمريكية. ولهذا يفترض في حال ارتفاع طلب الأمريكيين على البضائع والخدمات والأصول الصينية أكثر من طلب الصينيين على ما تنتجه وتعرضه أمريكا، كما هو عليه الحال الآن، أن يرتفع سعر صرف اليوان نتيجة لزيادة الطلب عليه. ولكن هذا لا يحدث نتيجة تدخل البنك المركزي الصيني من ناحية وارتباط اليوان بالدولار من ناحية أخرى. فاليوان يشبه في هذه الحالة العملات المتداولة في بلداننا الخليجية والتي لا يتأثر سعر صرفها بعجز أو فائض ميزان المدفوعات. ولذلك نلاحظ عدم ارتفاع سعر صرف الريال والدرهم والدينار بالنسبة للدولار وذلك على الرغم من الفوائض المالية التي تتمتع بها دول المجلس. من ناحية أخرى فإن الربط الأمريكي بين فائض حساب المعاملات وسعر صرف العملة هو- على ما يبدو لي- حق أريد به باطل. فالعلاقة بين حساب المعاملات وسعر الصرف ليست هي المؤشر الوحيد الذي لا يعمل في اقتصاد اليوم. وذلك يعود إلى تدخل الحكومات في الاقتصاد. وخصوصاً في البلدان المصدرة للعملات الرئيسية. فهذه البلدان صارت تتدخل في كل صغيرة وكبيرة وذلك على أساس أن ما يناسبها يناسب الاقتصاد العالمي. وإلا فكيف يمكن تفسير سياسة التيسير الكمي التي اتخذها الاحتياطي الفدرالي والتي أغرقت أسواق العالم بأوراق خضراء لا قيمة لها. ولكن هذه السياسات المالية والنقدية التي تتخذ لمساعدة قطاع الأعمال والاقتصاد على الدوران في اتجاه معاكس للدورة الاقتصادية هي في الواقع تشبه المنشطات. فلمنع الناتج المحلي الإجمالي من الانخفاض تخلق المحفزات الاقتصادية الاصطناعية مثل خفض سعر الفائدة وطباعة النقود غير المغطاة وتأميم الشركات والتوسع في السياسة المالية. فلولا هذه الإجراءات الاستثنائية لما استطاعت بعض الشركات ذات الشهرة العالمية أن تبقى على خريطة الاقتصاد العالمي. ويمكن هنا أن أسوق بعض الأمثلة كإنقاذ شركة التأمين الأمريكية AIG وبنك "ميريل لينش" والاستحواذ على شركتي فاني ماي وفريدي ماك العقاريتين ودعم شركة جنرال موتورز والقائمة تطول. وأوروبا في هذا المجال لا تختلف عن أمريكا. فالعديد من الشركات الضخمة في القارة العجوز كانت ستواجه مصيرها المحتوم لو لا تدخل الحكومات الأوروبية. إذاً فإن الاقتصاد العالمي، الذي أدمن تعاطي المنشطات والمهدئات الاقتصادية، معرض في الحالة هذه إلى مواجهة العديد من الأزمات طالما أن الفقاعة تعالج بفقاعة اقتصادية أخرى يتم انتظارها حتى تنتفخ وتنفجر ليستعاض عنها بفقاعة ثانية جديدة. وأسوء ما في الأمر أنه لا يبدو في الأفق أمل لمعالجة جذرية لذلك الاقتصاد. وأنا هنا أعني اقتصاد البلدان الصناعية التي تتحكم بصياغة وتشكل الاقتصاد العالمي. والسبب مرده- كما يبدو لي- إلى عاملين اثنين على الأقل. الأول هو أن صناع القرارات الاقتصادية في العالم هم سياسيون بالدرجة الأولى. ولذلك فإنهم غير مستعدين لاتخاذ إجراءات اقتصادية مؤلمة قد تضر بسمعتهم الانتخابية. أما العامل الثاني فهو عشعشت فلسفة الميركانتليزم، التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر، في أدمغة من يصرخون بأعلى الأصوات بأنهم مع حرية التجارة العالمية. فالبلدان الصناعية مثلما نرى تريد أن تبيع لغيرها أكثر وأن تشتري من هذا الغير أقل. وفي ظل هذه الفلسفة فإن الاقتصاد العالمي سوف يبقى رهين التطبب بالمنشطات والمهدئات لفترة طويلة.