لا أنسى لقاءً قديماً مع سيدة الغناء العربي (أم كلثوم) سُئلت فيه: * أيهم أكثر أهمية: الشعر أم اللحن أم الصوت؟! - فقالت: الشعر هو الأكثر أهمية لأنه ينفعل به الملحن والمغني فهو الأساس.. قلت: نستطيع أن نشبه الأغنية الجيدة بالكائن الحي، كالإنسان مثلاً، فالصوت هو شكله والشعر هو روحه واللحن هو ملابسه.. من الناحية النظرية يبدو هذا التشبيه معبراً، ولكن من الناحية الواقعية الملموسة أعتقد أن الأهم هو الصوت الجميل ، فهو الذي يخلد الشعر والألحان.. هو الأهم في هذا المجال (الأغاني).. لأن الأغنية قوامها الصوت.. فهو الواجهة والوجه.. إن الشعر إذا لُحِّن وغُنِّي انصهر داخل شخصية جديدة متكاملة هي (الأغنية) فلا يمكن فصل الشعر عن الصوت أو اللحن، ولا العكس.. واعتقادي أن الصوت الجميل هو الأهم في الأغنية لا يعني التفضيل المطلق بالطبع، ولكنه المحدد بهذا المجال وهو (الأغنية) التي قوامها ومادتها الملموسة هي صوت المغني وإحساسه، والباقي - الشعر واللحن - يذوب فيه، بل ربما ينضوي تحت لوائه ويكون مجرد خادم له.. إن أهم ما في الحلوى الجيدة هو وجود السكر أو العسل، وبدونهما لا توجد حلوى، وكذلك الأغنية أهم عناصرها الصوت الجيد وبدونه لا يوجد أغنية بهذا المفهوم.. إنَّ أم كلثوم - على سبيل المثال - هي التي خلدت القصائد التي غنتها، وفي مقدمتها رائعتها (الأطلال) لإبراهيم ناجي، وقد اختارت كلماتها من قصيدتين للشاعر ومزجتهما ولم يشعر بذلك أحد أو يسأل، بل إن معظم الناس لم يكونوا ليعرفوا إبراهيم ناجي نفسه فضلاً عن قصيدة وحيدة له كالأطلال لولا أن صوتاً عظيماً كصوت أم كلثوم شدى بها، وقد فازت هذه الأغنية بالمستوى العاشر من بين أفضل مائة أغنية في القرن العشرين بمختلف لغات العالم ولجميع المغنين.. إن الحديث هنا ينصب على (الأغنية) لا على (الشعر) الذي له مكانته وتقويمه مجرداً من الأصوات والألحان، عارياً كما ولده صاحبه.. إن المشكلة هنا - إن وجد مشكلة - هو أن الشعر كثرة.. والصوت الجميل ندرة.. وسبب كثرة الشعر الرائع هو أنه محفوظ من مئات السنين بواسطة الرواية والكتابة.. أما الأصوات الجميلة فلم تحفظ إلا من خمسين عاماً، ولو حظفت أصوات اسحاق الموصلي وزرياب وجحظة وغيرهم من المغنين القدامى لأمكن الإمساك بخيط طويل للمقارنة، وإن كانت - المقارنة - غير واردة في نظري، لانعدام التجانس، فالصوت يختلف عن الشعر كلياً حتى وإن تغنى بالشعر.. بل إن الصوت نفسه يختلف أثناء الحديث عنه أثناء الغناء.. صوت أم كلثوم في المقابلة الإذاعية التي سمعتها لايمكن بحال مقارنته بصوتها وهي تغني (الأطلال) أو (رباعيات الخيام) أو (ذكريات) وغيرها من أغانيها الرائعة، بل إن صوت المذيعة التي أجرت اللقاء مع أم كلثوم كان أجمل من صوت أم كلثوم في الحديث العادي، ولكن حين الغناء، حين يجد الجد ويتطلب الفن استحقاقاته تظل المذيعة قابعة في حدودها الضيقة جداً وينطلق صوت أم كلثوم ملء الدنيا.. إن الشعر الجيد يبرق في الأغنية بريق الألماسة النادرة، ولكن الألماسة تظل كالأغنية كتلة واحدة لها شخصيتها المستقلة.. فلا هي الصوت وحده ولا اللحن وحده ولا الشعر وحده ولكنها جميع تلك العناصر منصهرة، وأظن الصوت الرائع هو سبب ذلك الانصهار النادر الذي أخرج لنا فناً جديداً يختلف عن الشعر والموسيقى والصوت العادي.. واعتقد أن أم كلثوم في ذلك اللقاء كانت - كعادتها - متواضعة فلم تضع الصوت في المقام الأول لأنها صاحبة الصوت، وإلا فإن الملحن والشاعر - أو الشعر واللحن على الأصح - كلها لا تتفاعل إلاّ بوجود صوت جميل.. والأصوات الجميلة تتناقص الآن ومعها هبطت الكلمات المغناة والألحان.