تبدو الدنيا غريبة حين تقف على الطرف الآخر من الأرض, يفصلك يوم عن يومك العادي, وأميال وبحور عن ما تعرفه وتألفت عليه. ورغم أنك تعرف أنك في دورانك هذا في حالة رحيل مؤقت ستعود بعده إلى حيث أنت إلى حيث تنتمي، إلا أن هناك شعوراً طاغياً بالحنين والشوق لكل ما تعودت عليه, للشمس في كل صباح, لرائحة الشاي بالنعناع وتذمر زميلك اليومي في المكتب المجاور وهو يشرب فنجانه بين حكاية وأخرى من حكاياته التي لاتنتهي لضحكة أمك وهي تصب فنجان القهوة العربية أو تخطط لعشاء الغد, لصوت أبيك وهو يتحدث عن أخبار الأسهم و سوق العقار, لتجمعات الأصدقاء في آخر الاسبوع وهم محتارون فيما سيفعلون وأين سيلتقون؟ لابتسامة موظف الأمن في مكان عملك كل صباح وهو يحييك مبتسما متحدثا عن المطر الذي قد يأتي، يجتاحك شوق للغة التي تعرفها للكلمات التي تعشق سماعها للعبارات التي تفهمها, لروتين حياتك اليومي الذي كنت تظن أنه يخنقك. وهناك حيث يهاجر الآخرون طواعية أو مرغمين وحيث يتحدثون عن الحرية وعن العلم وعن التقدم وعن كل ما يظنون أنهم يفتقدونه حيث كانوا وحيث رحلوا وحيث تركوا ذكريات و أصحاباً و أقارب و أحباباً, هناك يتجمعون في مطاعم تعبق برائحة البهارات المهاجرة يتحدثون عن طبخ جدتهم في ذلك البيت القديم, ويلتقون في مقاهٍ تلفها رائحة الزنجبيل والزعتر ودخان الشيشة، يتمايلون مع آهات المغني الذي يناجي الفراق ويتحدث عن عيون الحبيبة وعن الدنيا التي تفرق الأحباب, أو حتى يتراقصون على نغمات سريعة وهم يهنئون عريساً بعروسه أو أباً بمولوده أو فتاة بنجاحها. و يبحثون في وجوه من حولهم عن ملامح تشبههم ليتحدثوا عن زمن مضى ومكان غادرهم أو أداروا له ظهرهم بحثا عن الجديد والمختلف عن فرصة أخرى عن بداية جديدة أو حتى جريا وراء بقايا حلم. يمكنك أن تنزع الإنسان من بيئته من مكانه لكنك لا تستطيع أن تمحي الحنين الذي ينمو داخله. للغربة وجوه كثيرة تجدها في ملامح غريبة تحاول أن تندمج فيما حولها لتكمل ما بقي من يومها. كل هذا يذكرك بجمال وقيمة ما تملكه و ما تنتمي إليه والذي تعود إليه ليحتضنك مهما غادرته وابتعدت! مرة أخرى كيف أنتم؟ انتهى المقال ولم أكتب الفكرة بل دفعتها فكرة أخرى واحتلت مكانها! مما يدفعني لسؤال هل نحن نكتب الفكرة أم الفكرة تكتبنا؟