(الله يقاصرنا وإياهم بالإحسان) هي جملة تختزل دعاء وتعويذة من إخواننا المتوارين عن أعيننا نعرفهم بلوازمهم وإشارتهم دون أجسادهم . وهي الجملة التي تمثل لوناً مهيمناً بل طاغياً في النسيج الثقافي والشعبي المحلي لدينا. لذا لمَ ينكر البعض على قاضي المدينة الإشارة لهم والتعليل بهم ، وجعلهم جزءاً من السيناريو الدرامي الدامي لقضية إحدى محاكم المدينة المنورة؟! بينما هم على مستوى الحياة اليومية حولنا يتواجدن بكثافة ، بل يأخذون أدوار البطولة في معظم الأفكار والمعتقدات والحكايات والسواليف والأمراض والانتكاسات وماهنالك من أطوار النفس البشرية . إن كان الكثير من علماء التاريخ قد قسموا التاريخ الإنساني على مستوى الأفكار والمعتقدات إلى أربعة أقسام : تبدأ بالمرحلة الطوطمية الوثنية /تليها المرحلة اللاهوتية / ومن ثم مرحلة العلم والحداثة / وأخيرا المرحلة الرقمية وثورة المعلومات؛فمحلياً قد نجد أننا محاطون بجميع الآلات والتقنيات التي هي وليدة عصر العلم والعقل والحداثة ، وجامعاتنا تدرّس النظريات العلمية وتطبق القوانين الأمبريقية التي لاتعترف بحقيقة مالم تمر على القياس والتجربة بالحواس الخمس ، متوسلة في هذا كل شروط العقل العلمي البارد المتعجرف ، لكن على نطاق اجتماعي واسع وعلى مستوى الأفكار والمعتقدات والنفسيات والأمزجة فما زلنا نقبع في منطقة زمنية سحيقة مابين المرحلة الطوطمية واللاهوتية فالحداثة كفلسفة وكرؤية وكأسلوب حياة لم تدخل بين ربوعنا بعد . فلطالما دارت (غضارة) على المصلين في المسجد للنفث بها والقراءة عليها كعلاج لمعيون أو مسحور، ويندر أن نجلس في مجلس دون أن تمر بنا حكايات يلعب بها العين والسحر المحرك الرئيسي في الموضوع ، وإن رأيتِ أن تجاملي إحداهن بلطف وتودد حول طفلها أو حفيدها كبّرت في وجهك وأخفت عمره الحقيقي خوفا من أن (تنظليه) . ومع قدوم الخادمات الغريبات الطارئات على الثقافة ، كانت سبل مقاومة المجتمع لحضورهن الطارئ بتطويقهن بتهم السحر والعطف والربط ، والمخيال الجمْعي يستقبل هذا بيقين فهو مخصب بحكايات الساحرات اللواتي لطالما حلقن في سمائنا وهن ممتطيات جذوع النخيل وقادمات من بلد خليجي مجاور . في معرض الرياض الدولي للكتاب يحتل إحدى واجهاته بالكامل جدار السحر ؛ حيث على مرأى ومسمع من نخب العالم العربي نعرض مسرحية (محاكم التفتيش) التي تبرز أساليبنا المحلية في ملاحقة السحر والسحرة ، والقبض عليهم ، وأشكال السحر وأنواعه ، وطريقة فكه ، كمنتج محلي (نقي) لم يخالطه أي نكهة خارجية . وإن ملّت امرأة من ظروفها المنزلية الظالمة ، ترامت في أحضان جيراننا الغامضين، وعلّلها المحيطون بها بأنها مصابة (بالمس العاشق) ، وجلبوا لها رقية اسمها (الصاعقة) كي يغادرها رفيقها مخذولا مغادرة لايتبعها سقم ، ولو استعنا بالشيخ جوجول للبحث عن المواقع المتعلقة بالجن والسحرة والغيبيات والرقية أساليبها وأنواعها ، لهالنا كثافة الموجودات وتنوعها وتعدد أساليبها بشكل يجعلنا نفتح شدقينا استغرابا ولانغلقهما . وبعد هذا جميعه ينكرون على القاضي أن يزوره الجن ويتلبسه ويتحكم في تصرفاته ؟! الله يقاصرنا وإياهم بالإحسان..