هناك رواية قديمة لأميل زولا اسمها "التحفة" بطلها كان رساماً يعتقد أنه أكثر الرسامين مهارة في العالم ، إيمانه بموهبته وبقدراته جعله يخاصم العالم ويعتبر كل ناقد لا يعجبه عمله حاقدا غيورا ، ولّما لم يؤمن العالم بموهبته التي يجزم بوجودها فيه اعتبر نفسه سابقا لعصره واعماله تحفا فنية لا يستحقها العالم لذا رسم لوحته الاخيرة والتي اعتبرها تحفته الاخيرة ثم ألقاها في النهر ! قرأت هذه الرواية عندما كنت صغيرة ، ورغم ذلك لا ازال اذكر تأثري بها وحيرتي وقتها من كيفية الحكم على انجاز شخص ما ، خاصة اذا لم يكن قابلا للقياس وكان خاضعا للذائقة ولتقييم المتلقي ، مثل كل الاعمال الادبية والفنية والتشكيلية ، بمعنى آخر كل الاعمال النابعة من الوجدان والتي تعبر عن حالة المبدع وما يشعر به .. وخلال حياتي المهنية صادفت الكثيرين ممن هم في رأيي الشخصي أنصاف موهوبين ، وكنت أتجمل في تقييم اعمالهم بالقدر الذي يظهر لهم نقاط الضعف لكنه لا يهيل التراب في وجه إبداعهم حرصا على مشاعرهم .. وطبعا كنا نقرأ لكثير من الكتاب الذين خرجت مؤلفاتهم في طبعات فاخرة وهي لا تستحق الورق الذي كتب عليها من وجهة نظرنا كمجموعات قراءة .. لكن الآن يستوقفني أمر يكاد يطيح بكل قناعات الماضي.. ماذا لو كانوا فعلا مبدعين وكانت احكامنا عليهم تحمل استعلاء وتعكس غيرة ؟! ما هو المعيار الذي اعتمدنا عليه غير ذائقتنا .. لغة ركيكة ! من يحكم ؟ أسلوب سطحي ! من يقرر؟ ماذا إذن عن كتب وأعمال ادبية لاقت نجاحا منقطع النظير وحققت أعلى المبيعات وهي في رأيي الشخصي ضعيفة وتافهة مقابل أعمال اخرى اهملت واجحف حقها كثيرا رغم تميزها الكبير؟! يظل الأمر وجهة نظر .. أليس كذلك؟ هناك من يقول إن الزمن كفيل بإظهار قيمة الانجازات البشرية وإن ما يبقى بعد قرون من انجازه هو الاصلح والأقوم .. لكن ماذا عن الآن ؟ علمتني الحياة أن للحقيقة أكثر من وجه وأنه لامطلق الا الله سبحانه وتعالى وما عداه قابل للقياس ، لذا فإنني حين أقول رأيي في حدث أو انجاز اؤكد على انه رأيي الشخصي اعرضه ولا افرضه ، وأحترم وجهة النظر المخالفة يقول تعالى :" وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" . حسناً ولكن هذا لا يمنع أن تظل لي ذائقتي التي أحترمها وخياراتي التي اعتمد فيها على ما أميل له دون غيره ، ولعلي حين بدأت اسقط اسماء المبدعين من تقييمي اصبحت اكثر انحيازا لميولي ولم يعد الاسم يشكل حاجزا نفسيا يمنعني من أن أتناول اي ابداع بشري بالنقد مهما بلغت استاذية وشهرة من كتبه .. وهذا بالفعل .. حررني !