الوثائق السرية والخطيرة التي نشرها موقع ويكيليكس والمتعلقة بالحرب على العراق ، جاءت كإجابة قاطعة لتساؤلات سابقة حول حقيقة الوضع الداخلي، فالمشهد الذي بات يتكرر يوميا في العراق الجريح ، لم نكن نعلم على وجه الدقة من الذي يقف خلفه فضلا عن مسلسل الغموض الذي كان يكتنف جرائم كثيرة لا تلبث أن تُسجل ضد مجهول ، ومع ذلك كان هناك من يقول إنها القاعدة، والبعض الآخر يرى أن ذلك ما هو سوى تواطؤ علني بين بعض أجهزة الأمن الرسمية، وميليشيات مسلحة لأجل أجندات فئوية وطائفية. في حين أن البعض الآخر يشير إلى تدخل إيراني بدعم ميليشيات، أو غض بصر لسورية في السماح بتسلل الإرهابيين آنذاك. إن التسامح والسكوت عن مخاطر بهذا الحجم، وعن سلوكيات بهذه الوحشية ، سيؤدي، لا محالة، إلى مزيد من خلق بيئة من الرعب والخوف، وهذا يشكل خطرا حقيقيا على حياة المواطنين ، ويخلق حالة من عدم الثقة في السلطة ويعطي الانطباع أن عهد صدام حسين ما زال ماثلا وقائما على أن الوثائق جاءت لتميط اللثام وبوضوح وتكشف عن حقائق مذهلة عن تورط المالكي وإيران وسورية في ما حدث في العراق من أحداث وممارسات مشينة. فالمالكي كان على علم بانتهاكات مروعة تتعلق بتعذيب وتصفية سجناء عراقيين ، وان أميركا كانت على علم بالممارسات التي قام بها وغضت له الطرف ولم تحرك ساكنا، وأشارت الوثائق إلى انه شخص طائفي، يضغط على السنة بقسوة لأنه يعتبرهم مصدر تهديد له وفق الوثائق. كما كشفت عن قيام الحرس الثوري الإيراني بتنفيذ عمليات اغتيال وان هناك خمس ميليشيات تتلقى الأوامر من طهران منها فيلق بدر والفضيلة. وأظهرت الملفات السرية أن سورية كانت مصدر الأحزمة الناسفة، في حين اتضح التمويل والتسليح الإيراني في المواجهات التي تمت بين الميليشيات الشيعية والقوات الأميركية. كما أشارت الوثائق إلى أن عدد القتلى المدنيين وصل إلى 66 ألف قتيل. ومن الطبيعي أن تظهر مستقبلا معلومات جديدة فالوثائق تتجاوز 400 ألف وثيقة سرية. وقد نجحت وسائل الإعلام العربية والغربية في التعامل مع الحدث بشكل مهني ومن زاوية إنسانية وحقوقية. على انه يجب أن نعترف بان الإدارة الأميركية السابقة نجحت في التخطيط للحرب ، ولولاها لما تخلص الشعب العراقي من نظام ديكتاتوري ، لكنها في المقابل فشلت لأنها لم تضع إستراتيجية لعراق ما بعد صدام ، ولم تستوعب كثيرا ولم تطلع على خفايا الواقع المذهبي والاجتماعي بدليل ما نشاهده اليوم . هناك من يرى بأن واشنطن لم تعد تكترث بالعراق وترغب في التملص منه على اعتبار انه إرث من الإدارة السابقة وعبء عليها ترغب في التخلص منه وبالتالي فهي ترغب في ترشيح المالكي بسبب مواجهة العنف بعد مغادرة جيوشها النهائية ، ولذا فهي تميل له لاعتقادها بتحكمه في الأجهزة الأمنية . في حين أن الإيرانيين يدعمونه لأنه يوفر لهم الغطاء الشرعي للتواجد في العراق. ومن المعروف ووفقا لتقارير سابقة اتضح بأن هناك أربعة مستويات للتدخل الإيراني تتمثل في التواصل مع القادة الدينيين والعلمانيين، ومع المسؤولين الحكوميين واختراقها للمؤسسات الحكومية فضلا عن اختراقها للجيش والأجهزة الأمنية وذلك بإنشاء خلايا مخابراتية ناهيك عن تقديم معونات وإقامة مشاريع في المناطق الشيعية. وقد نجحت الإستراتيجية الإيرانية في إبقاء اللاعبين السياسيين ضمن دائرتها ، ولعل هذه الوثائق كشفت عن حقيقة هذه المستويات وتفاصيل التغلغل الفارسي في النسيج العراقي. على أن ثمة تساؤلات مطروحة حول التوقيت ومن قام بالتسريب.هناك من يرى بأن أميركا هي من قام بذلك لأسباب تتعلق بالإدارة السابقة ومحاولة الضغط على إيران وسورية .كما أنها تشعر بأن المالكي رغم انه كان مرشحها فإنه بات منحازا لإيران أكثر مما يجب ، ولذا ما المانع في تشويه صورته الآن. وتبقى كل ذلك قراءات ليس بالضرورة أن تكون صحيحة. إلا انه من الجانب الأخلاقي والقانوني والحقوقي فإن الولاياتالمتحدة الأميركية تتحمل المسؤولية لتسترها على ممارسات المالكي وحكومته فضلا عن الدورين الإيراني والسوري، وهي التي روجت في غزوها العراق بأنه سيكون نموذجا لشرق أوسط جديد، في حين أن أخطاءها شكلت غطاء لعمليات التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان. علي أي حال الموضوع برمته على الأرجح في طريقه للتصعيد وستكون له تداعيات وسيثير الكثير من المتاعب وربما الضرر للمتورطين سواء للمالكي أو القوات الأميركية ناهيك عن إيران، فالقضية إنسانية وبامتياز قبل أن تكون سياسية. ويقتضي الحال ضرورة التحقيق فيها كجرائم لانتهاك حقوق الإنسان، هذا إذا لم تُصنف كجرائم حرب ضد الإنسانية وتتم محاكمتها وفقا لقانون المحكمة الجنائية الدولية أو إنشاء محكمة خاصة بها على غرار المحاكم الخاصة الأخرى. إن التسامح والسكوت عن مخاطر بهذا الحجم، وعن سلوكيات بهذه الوحشية ، سيؤدي، لا محالة، إلى مزيد من خلق بيئة من الرعب والخوف، وهذا يشكل خطرا حقيقيا على حياة المواطنين ، ويخلق حالة من عدم الثقة في السلطة ويعطي الانطباع أن عهد صدام حسين ما زال ماثلا وقائما. وهاقد مرت أكثر من سبعة أشهر على الانتخابات والوضع ما زال معقدا ومأزوما وشائكا. ولعل إخفاق الكتل البرلمانية والزعامات السياسية في تشكيل الحكومة يعني بصراحة فشل التجربة الديمقراطية الوليدة على الرغم من أن الشعب العراقي قد صوّت واتخذ قراره، إلا انه يبدو أن القرار يتخذ خارج العراق وليس من داخله. ولعل الوثائق التي نشرها موقع ويكيليكس تؤيد هذا الاتجاه، فالولاءات الخارجية أثرت على العملية السياسية ، مغلّبة مصالحها بالدرجة الأولى. وفي خضم هذا الاحتدام وهذا المناخ المأزوم الملبد بغيوم القتل الجماعي اليومي والتدهور الاقتصادي ، وفي غياب وجود توافق عراقي وطني يستقطب الأغلبية العراقية حوله بكل تكويناتها العرقية والاثنية ، فضلا عن التدخلات الخارجية السلبية التي تمارس من قبل قوى إقليمية مؤثرة على الساحة العراقية لتعطيل أية عملية سياسية ، فإن الفراغ السياسي قد يلقي بظلاله سلبا على المشهد العام فينعدم الوزن السياسي والإداري ويزداد الفساد تفشيا، وتتدهور قدرات الجيش العراقي والملف الأمني على حد سواء لاسيما بعد أن اهتزت الثقة في الشرعية ودول الجوار. إن تحجيم الفكر الطائفي والعرقي، والارتهان لمفهوم وطن موحد ومستقل يقوم على المبادئ الديمقراطية وممثل لسكان العراق بكافة ألوانه ومشاربه، كفيل بإنهاء الأزمة. والمجال أمام كل القوى والتيارات بأن تسهم في العملية السياسية وتقوم بتغليب مصلحة الوطن خاصة بعدما كشفت تلك الوثائق السرية عن مدى التأثير الخارجي في المشهد السياسي، وعليها أن تُوقن أن التاريخ لن يرحم أولئك الذين يضعون مصالحهم الذاتية والفئوية والطائفية فوق مصلحة العراق. فمصيرهم لن يختلف عن مصير من ارتكب تلك الجرائم البشعة ، والأيام حبلى على أي حال.!