في عام 1971م، برز موسيقي أمريكي شاب من مواليد نيويورك، مع صدور ألبومه الذي حمل عنوان "الفطيرة الأمريكية"، بأغنية تحمل نفس اسم الألبوم، حيث يرثي دون ماكلين كل من بودي هولي وريتشي فالينز وجي. بي. ريتشاردسون، الذين راحوا ضحية تحطم طائرتهم بالقرب من بحيرة كلاير في ولاية أيوا في الثالث من فبراير عام 1959م. هذا التاريخ حمل اسم "اليوم الذي ماتت فيه الموسيقى"، وهو لقب أطلقه عليه دون ماكلين في أغنيته السالفة، تأثراً بموت ثلاثة من الفنانين في يوم واحد ضحية حادث مأساوي، فقد معه ماكلين إيمانه بقوة تأثير الموسيقى وإمكانية تحقيقها البهجة للإنسان، لكن كتابته لكلمات قصيدته وتلحينها ثم تقديمها للجمهور عكسا معنى أعمق لمجرد الكفر بالموسيقى وأثرها اللحظي. ماكلين رغم عبقريته الفنية ككاتب وموسيقي، لم يتصور ذلك الانتشار العميق لأغنيته، لتنفذ وبتناقض تام عبر أغنيته التي قدمتها مادونا في عام 2000م كأغنية بوب لفيلم "الشيء الأفضل القادم" من إخراج الراحل جون شليسنجر الذي اشتهر بأفلام مثل "كاوبوي منتصف الليل"، "الأحد الدامي". كل من الفيلم والأغنية المصورة من نسخة مادونا، نزعا إلى ترويج فكرة لا تمت للأغنية بصلة، لتدور حول العلاقات التي قدم الفيلم أحدها، الاضطراب الجنسي والشذوذ، زواج الأعمار المتباعدة، الزواج الإثني والعرقي المختلف، وغيرها مما عرفت به ملكة البوب الأمريكية. مادونا وبجرأة غير محسوبة في استخدام فلسفة الديالكتيك (الجدل)، يمكننا ربط مادونا كطرف علاقة، بالليدي جاجا، والتي تقدم على أنها رمز للأنوثة الغربية ما بعد الحداثة، ومادونا الأجيال القادمة، وهو ما يوسع هوة التوقع عند ماكلين مرة أخرى، الذي صرح ذات مرة في زمن الموسيقى الذهبي بأنها ماتت، ثم صرح مرة أخرى بعد إعادة تسجيل مادونا لأغنيته بأنها هدية من إلهة، وسواء كان هذا تصريحاً شخصيا أو للإعلام الأمريكي الجائع، إلا أن علمنا المتواضع بكواليس صناعة إعلام الموسيقى وترويجها، يجعلنا نؤكد أن كل تصريح يحسب له حساب، وغالباً لا يتجرأ على مقارعته سوى الشباب المتحمس أو الكبير القانع، والذين يجدون أنفسهم في لحظات ما، غير مهتمين مطلقاً باشتراطات سوق الموسيقى الغربي، الذي يستطيع وعبر عملية تدجين واسعة تمر من خلال عدة قنوات، استعباد المغني وجعله ألعوبة بيد شركات الإنتاج، وهو ما يفسر تلاشي الخيط الفاصل بين المغنية المحترفة وراقصة التعري وفتاة الليل في الأغنية العالمية وليس الغربية فقط، وهو أمر كان يظهر بين الفينة والأخرى في سماء الموسيقى الغربية، قبل أن تصبح ظاهرة دفعت ويلاتها لائحة ليست بالصغيرة من المغنيات اللواتي قدمن في البداية كنموذج للفتاة اللطيفة للغاية، العذراء البريئة وكل ذلك بحساب، لتتحول فيما بعد إلى أيقونة شهوانية، تستهلكها الشركة في أسرع وقت، ومع وجود أمثال بريتني سبيرز وكريستينا أغيوليرا وغوين استيفاني، مضافاً إليها ميراث كبير من ربط مفهوم البوب بالجمال، جاءت ظاهرة الليدي جاجا في اتجاه آخر، مسقطة شروط الصوت، والجمال، والجندر الذي يشاع مؤخراً حول حقيقة أنوثتها المزيفة، ليتكفل الإعلام والانترنت بالترويج لها بشكل خارق للمقاييس، إلى الحد الذي يتسابق فيه نجوم يعرفون السوق جيداً، ويدركون أهمية اقتسام الكعكة التي طبخت بالزيت النجس، حيث بريق الشهرة واختلال مفهوم السيرة الفنية يجعلان من ذلك مسوغاً واحترافية يمكن أن ينساق خلالها آخرون مستقبلاً. بريتني سبيرز مرة أخرى نربط بين أطراف الفكرة، فالليدي جاجا كتبت مع فرناندو غاريباي أغنية "رمال متحركة" لألبوم بريتني سبيرز "سيرك" عام 2008م، وعلى الرغم من أنها لم تكن من مسارات الألبوم الرئيسية، إلا أنها انتشرت لاحقاً بسبب اسم جاجا، التي صرحت في أحد لقاءاتها بأنها لا تجد في الأغنية ما كتبته، إلا أن بصمتها المتوترة ونشاز سلمها الموسيقي يؤكدان وجودها خلف العمل، وخلف فكرة السيرك الإباحي الذي قادته سبيرز عبر جولة غنائية عام 2009م. ارتباط الصناعة الاحترافية في السينما والموسيقى بالمسار الإباحي في أمريكا، ظاهرة ليست جديدة، ولها سوابق عبر نجوم كبار في كلتا الصناعتين، ففي السينما قدم ميلوش فورمان مخرج "وطار فوق عش الوقواق" عام 1975م، و"أماديوس" عام 1984م، فيلمه "العالم ضد لاري فلينت" عام 1996م، مستميتاً في الدفاع عن مؤسس "البلاي بوي" إحدى الأيقونات الأميركية التي تعبر عن لبيراليتها المتوحشة. وفي الموسيقى لم تفتأ أسماء صغيرة وكبيرة في أصناف مثل الروك والهيب هوب وحتى البوب في تقديم فتيات الصناعة الإباحية كفتيات رئيسيات في أغانيهم المصورة، وحتى الموديلات أو الشخصيات الشهيرة من السينما، لا يمانعن من تقديم صورة الفتاة الرخيصة لتطويع فكرة الأغنية المصورة التي ستحصد مبيعات أكبر مع كل قطعة قماش تستغني عنها الفتاة البائسة. بيد أن كل ما سبق لا يعدو أن يكون نزهة بسيطة مقارنة بالسعار الإعلامي الذي حرك الجماهير الأميريكية والعالم من ورائها مع تدشين ألبوم جاجا الأول "شهرة"، حيث ترعاها الآلة الإعلامية الضخمة للإم تي في، والتي بات أثرها السلبي والقبيح على الأغنية الغربية واضحاً، ولم يبق عندها مزيد موسيقى لتفسدها، لأن الموسيقى أصبحت جزءاً صغيرا من اهتمامها الذي صار يصب في صالح البرامج الواقعية التافهة والرخيصة، ومتابعة الأخبار الساذجة للنجوم الذين تصنعهم ومن ضمنهم الليدي جاجا وغيرها من مستنسخات الألفية، الحقبة التي يصدق فيها التسمية بحقبة موسيقى البورنو. لا نريد أن نبدو متشائمين، ففي ساحة الغناء الغربي، ما زالت هناك أسماء تبدو بعيدة عن كل هذا الزخم، ما زالت تحقق ما يجعل المرء مكتفياً بالاستمتاع به، لكن قوة سيطرة ونفاذ شركات الإنتاج لا تجعلهم وغيرهم من موسيقيين جدد حقيقيين بمنأى عن مصير مشابه لآخرين سبقوهم، ولن نتفاجأ عندما نرى أليشيا كيز أو حتى كايتي ميلوا وهي تتخلى عن سحر صوتها من أجل أن تشارك جاجا النهيق على مسرح تصرع فيه مراراً، وقد تخلت عن ملابسها إلا من فقاقيع بلاستيكية أو لحم خنزير أعيته الانفلونزا.