هل قرأت رواية "اسم الوردة" لإمبرتو إيكو أو "451 فهرنهايت" لراي برادبوري؟، هل سبق وأن شاهدت فيلم "سينما باراديسو" لجيوزبي تورنتوري أو "يوم لليلة" لفرانسوا تروفو؟. أغنية "سلاطين السوينق" لداير سترايتس تدور في ذات الفلك، درة فنية تحوي في قلبها تقديرها البالغ للفن الذي تنتمي إليه. من المدهش أن تكون هذه الأغنية هي أولى أعمال فرقة داير سترايتس التي أسسها الجيتاريست العبقري مارك نوفلر، الرجل الذي يصنفه كثير من النقاد وجمهور موسيقى الروك أند رول وموسيقى الفولك، كأحد أمهر عازفي الجيتار الذين عرفتهم صناعة الأغنية الغربية. نوفلر كتب الكلمات ولحنها على نمط الجيتار العادي، ثم انتقل في اختيار صائب إلى الجيتار الكهربائي من طراز "سترات" فيندر ستراتوكاستر، وقدمها في شريط تجريبي (ديمو)، مع أربعة أعمال أخرى، تعطي انطباعاً عن نمط الفرقة ومنهجها الموسيقي، ولم يدر بخلده ولو للحظة بأن ذلك سيشعل حرباً بين شركات الموسيقى للحصول على عقد حصري مع الفرقة بعد أن تذاع هذه الأغنية في الإذاعة البريطانية. ما حققته الأغنية كان مدهشاً، على الرغم من أن المسيرة التي مرت بها، كانت طبيعية كأي عمل غنائي غربي. الصدور منفرداً، الإذاعات، ثم الصدور في ألبوم، إلا أنها مرت بمرحلة تقويم، دون المساس بروحها الأساسية التي ظهرت بصورتها البكر في شريط الديمو سالف الذكر، لتصدر متناسبة مع إذاعات ذات قيود صارمة مثل بي بي سي، أو سوق واسعة مثل السوق الأمريكية. كتب نوفلر كلمات القصيدة الغنائية، بأسلوبه المعتاد في تأمل الأشياء من حوله، الناس الذين يراهم في الأماكن التي يتردد عليها، وهو الأمر الذي افتقده لاحقاً بسبب شهرته التي لم تعد تمنحه القدرة على التأمل بأريحية. نوفلر كتب عبر ملاحظاته الشخصية عن رجل يسير في القسم الجنوبي من المنطقة الرئيسية بلندن، يضطره المطر للدخول إلى أحد المقاهي الليلية التي تعزف فيها موسيقى تجتذبه، حيث يرى فرقة تؤدي وصلة غنائية، بين جمهور نصف واع وغير مهتم، بينما تستمر الفرقة في العزف بحميمية وشغف، غير مهتمين هم أيضاً بالجمهور الموجود، حيث يحيي مغني الفرقة الجمهور قائلاً "ليلة سعيدة، شكرا لكم، حان وقت الذهاب للمنزل"، مفارقة طريفة في تواصل معدوم بين، جمهور من عشاق الروك الذين لا يلفت الجاز انتباههم، وأفراد فرقة يعشقون الموسيقى لذاتها بغض النظر عن جمهور يستحق، نوفلر يبدع وبشكل مدهش للغاية في سرد تفصيلات موسيقية عما تقدمه الفرقة، مستحضراً بعض المصطلحات والتراكيب اللحنية مثل "ديكسي"، "موسيقى الجاز"، "جورج يونغ" الأخ الأصغر لأنجس سونغ قائد فرقة الروك الشهيرة إي سي دي سي، "هاري فاندر" عازف الجيتار من فرقة "إيزي بيتس"، ليس هذا وحسب، بل إن عنوان الأغنية والذي يرد في كلمات القصيدة الغنائية كاسم لفرقة المقهى الليلي، يدور حول تيار السوينق أحد التفريعات من فن الجاز، والذي برز كنمط متسارع في نوتات الجيتار مع تزامن للجيتار المساعد والطبول، اشتهر به الأوروبيون مثل الفرنسي الغجري "جانغو راينهرادت" مبتكر الديكسي كما تؤكد المصادر المتخصصة. الجدير بالذكر أن الأغنية في بنيتها الموسيقية، لا تحمل أي تأثير من أسلوب التأرجح الذي اشتهر به الديكسي، لكنها نجحت في تقديم نمط موسيقي عرف به نوفلر على وجه الخصوص وفرقته بشكل عام حتى آخر أيام نشاطها. نوفلر منذ البداية التي تشرع فيها الأغنية بالافتتاح مع بنية متكاملة من الجيتار الرئيسي والمساعد والطبول، ينتقل بجيتاره الخاص مع طرقات قوية وحادة بأصابعه المجردة دون ريشة. الجيتار الرئيسي يصنع نغمة رشيقة في تونة متوازنة للغاية تتأرجح للأعلى والأسفل بمضاعفة لصالح الأسفل، ليخلق الصوت الواضح في ارتفاعه لجيتار نوفلر الذي يقدم عبره فواصل المقاطع، ثم لاحقاً أفضل المقاطع المنفردة في تاريخ الأغنية الغربية، هذا المقطع الذي توسع مراراً وبشكل مدهش في الحفلات الحية التي قدمها نوفلر كان أبرزها مع إيرك كلابتون عام 1988م بساحة ويمبلي في لندن. احتلت الأغنية ومن بعدها الألبوم مكانه في قوائم العشرة الأفضل في بريطانيا ولفترات طويلة، وفي الولاياتالمتحدة متجاوزا الرقم الذي حققه في بلده الأم، وعلى الرغم من مكانتها التجارية كعمل حقق الكثير من الأرباح للمنتجين وصنع اسم الفرقة الذي سيعرف فيما بعد وبشكل أكثر مع أغاني مثل "مال من أجل لا شيء"، "أخوة السلاح"، "روميو وجولييت"، و"آخر حيلك"، تجاوزت الأغنية ذلك، لتصبح درساً فنياً في تركيب الأغنية، ونمط التسارع والانخفاض لنوتة الجيتار تحديداً، لتحمل عن استحقاق وساماً لسلاطين الجيتار.