نسعد كثيرًا عندما ننجز أعمالنا الشخصية، أو الحكومية، أو البنكية، بشكل إلكتروني. بل يشعر البعض بالفخر والرضا التام لانتشار الخدمات الإلكترونية، التي تجعل الإنسان يقضي الكثير من أعماله دون أن يغادر مكتبه أو بيته، فيوفّر وقتًا ويدّخر جهدًا. وبالطبع فذلك تقدم ملحوظ واستغلال جيد للتقنية، ولكنه لا يعدو كونه البداية، لما يمكن أن تقدمه التقنيات الحديثة لتعزيز الاقتصاد الوطني والمنافسة العالمية. فماذا نريد وأين نتوجه؟ يطرح مايكل بورتر، أحد أبرز الباحثين في مجال «الإستراتيجية» والأستاذ في جامعة هارفرد الشهيرة، مبدأ التركيز والاختلاف «Positioning & Difference» في وضع الإستراتيجيات من أجل تحقيق الأهداف المطلوبة. ولعل التركيز هنا يأتي بمعنى تحديد التوجه الذي نريد أن نسلكه بدقة كافية للانطلاق، فيما يراد بالاختلاف هنا معنى التميز أو التمايز في تقديم ما نتطلع إلى تقديمه، وصولاً إلى تحقيق ما نريد، ولا شك أن في تصنيع التقنية، وكذلك في تقديم الخدمات التي تستخدم هذه التقنية وتستفيد منها، وسائل للتنمية وتوليد الثروة من جهة، ولتوظيف الموارد البشرية المُؤهلة والاستفادة منها من جهة أخرى. ومن هذا المُنطلق فإن علينا أن نحاول (التركيز) في اختيار التقنية التي نريد، وأن نسعى إلى استكشاف إمكان (التميز) فيها وكيفية تحقيق ذلك. وقبل أن نناقش هذا الأمر، لا بُد من تقديم مُلاحظتين مهمتين؛ أولهما أن الدول الناهضة التي حققت تقدماً ملحوظاً في العقود الأخيرة، اعتمدت على «التركيز والتميز»، فتايوان ركزت في إلكترونيات الحوسبة وتميزت بها؛ وكوريا الجنوبية ركزت على صناعة السيارات وتميزت بها، وكذلك الحال في إلكترونيات المُستهلك؛ والهند ركزت في البرمجيات وتميزت بها؛ وفنلندا ركزت على إلكترونيات أنظمة الجوال وتميزت بها؛ وهناك أمثلة أخرى كثيرة حول هذا الأمر. ونأتي إلى المُلاحظة الثانية التي تقول بأن المملكة شهدت في السنوات الأخيرة قفزة غير مسبوقة في التعليم العالي من خلال جامعاتها الجديدة، ومن خلال برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي. هذه القفزة ستُعطي موارد بشرية مُؤهلة يجب الاستفادة منها، والعمل على استخدام التركيز والتميز في اختيار التقنية أو التقنيات المُناسبة للانطلاق نحو المُستقبل. لا شك أننا لن نستطيع التميز في كافة التقنيات المُتاحة، وعلى ذلك فإن علينا التركيز في التقنيات التي يُمكننا التميز فيها، وهنا يأتي ما يُمكن أن ندعوه بدراسات «الجاهزية التقنية»؛ علينا أن نكون جاهزين تقنياً للتميز في التقنيات التي نتبناها، كي نُحقق الفوائد المرجوة. وإذا نظرنا إلى هذه الجاهزية نظرة موضوعية، فإننا نرى أنها تستند إلى أربعة أعمدة رئيسة: المعرفة، والموارد البشرية، والسوق المتوقع، والاستثمار اللازم. تتمثل المعرفة المطلوبة في البحث العلمي، والإمكانات البحثية، والمهارات، والخبرات في مجال التقنية المطروحة. فالمعرفة التي يُنتجها البحث العلمي هي المحرك اللازم، ليس للتميز الأولي عند الانطلاق فقط، بل للتميز والتجدد المستمر أيضاً، وتأتي الموارد البشرية من مُخرجات التعليم والجامعات، ولدينا ثروة قادمة منها، تُقدمها جامعاتنا والجامعات العالمية التي يدرس فيها المبتعثون. ويبدأ السوق المتوقع بالسوق المحلي ثُم الأسواق الخارجية خصوصاً مع ارتفاع مستوى التميز الذي نستطيع الوصول إليه، وتحقيق القدرة على المُنافسة. أما الاستثمار اللازم فيُعطي القاعدة التي تُطلق الإمكانات المطلوبة، نحو العمل المنشود. ولا شك أن وجود دراسات جاهزية تقنية ناجحة، يُشجع أصحاب رؤوس الأعمال على الاستثمار في التقنيات الواعدة.