رغم ضعف أو غياب الدور العربي الفاعل منذ فترة ليست قصيرة ، والفراغ الإستراتيجي الذي سمح للآخرين بالتدخل في الشأن العربي ، وتعطل تفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك، وغياب الرؤية الإستراتيجية لمستقبل المنطقة العربية، وتغليب النزعات الأحادية على المصلحة العربية العليا، وتعثر حل القضايا المصيرية، بل واستمرار مسلسل النكبات العربية نكبة تلو الأخرى ولعل ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والعراق، والسودان ، والصومال خير شاهد على ضعف النظام العربي الرسمي... إلا أن هناك بارقة أمل تومض أحياناً في الخطاب العربي وخاصة في القمم العربية الأخيرة، حيث بدأ القادة العرب يسمون الأشياء بمسمياتها الحقيقية دون خجل كما كان الخطاب العربي الرنان في الماضي والذي كان يطبق أسلوب النعامة... ولعل وثيقة العهد والوفاق التي تمخضت عن قمة تونس في مايو 2004م، كانت بداية عهد جديد من المصارحة والمكاشفة بين القادة العرب وخطوة هامة لإصلاح ذات البين قبل تفعيل العمل العربي المشترك الذي ظل يراوح دون تقدم طيلة أكثر من60 عاماً مضت. وفي إطار سياسة المصارحة العربية جاءت كلمة المملكة العربية السعودية التي ألقاها سمو الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي أمام قمة سرت الأخيرة يوم السبت 9 / 10 / 2010 م، والتي عكست حقائق الأمور على أرض الواقع، ونبهت إلى المخاطر المحدقة بالأمة العربية ودعت إلى إصلاح البيت العربي من الداخل وفقاً للأولويات التي يحتاجها هذا البيت بلغة واقعية بعيداً عن إنشائية الخطاب العربي التقليدي المثقل بالخلافات أو المحلق في فضاء الأحلام بعيدة المنال. الكلمة السعودية اعترفت بالواقع وذكرت أن هناك إشكاليات تعترض قيام نظام عربي فاعل وقادر على التعامل مع دول الجوار ككتلة متجانسة وموحدة، واعترفت بغياب الدور العربي الفاعل والمؤثر الذي خلق فراغاً إستراتيجياً يتم استغلاله من قبل الكثير من الدول المجاورة للدول العربية. وقد جاء ذلك في سياق الرد على رؤية الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى بشأن التعامل مع دول الجوار العربي ، وأشاد الأمير سعود الفيصل برؤية عمرو موسى ، بل أرجعها إلى أسبابها الحقيقية وقال في هذا الصدد " إنها تعكس خلاصة لقراءة السيد عمرو موسى للأوضاع العربية في منطقة الشرق الأوسط عموماً ، كما أنها نابعة من شعور بتآكل الدور الإقليمي للنظام العربي في محيطه ومركزه، مقارنة بتصاعد دور بعض الدول في المنطقة ". ويبدو أن رؤية السيد عمرو موسى التي تنطلق من الضيق بالوضع العربي الراهن تبحث عن بديل لترميم هذا الوضع ، ومع تقديرنا لحسن النية وسمو الهدف لهذه الرؤية ، لكنها تعكس الرغبة في الهروب إلى الأمام ، والاستجارة بالرمضاء ... فكيف للدول العربية التي تعاني من تدخلات دول الجوار علناً في الشئون الداخلية لبعض الدول العربية وتحتل أجزاء ًمن أراضيها وتستخدم أذرعاً داخل أراضي المنطقة العربية ولا تستجيب لنداء التفاوض السلمي على الحقوق المغتصبة ، بل تزعم أن لها حقوقاً تاريخية في دول عربية مستقلة وذات سيادة ، إضافة إلى أن بعض دول الجوار الأخرى مهتمة بتحسين وضعها الاقتصادي وتبحث عن تواجدها في العديد من الدول الأخرى سواء من البوابة الاقتصادية أو البوابة السياسية، في حين أن البيت العربي الذي بدأ يعمل تحت المظلة الجماعية منذ منتصف أربعينيات القرن الميلادي الماضي يقف عاجزاً عن تنفيذ قرارات القمم السابقة ، أو حتى ما جاء في ميثاق تأسيس الجامعة ذاتها مثل السوق العربية المشتركة، مجلس الدفاع العربي المشترك، وغير ذلك من حرية التملك ، التنقل ، الجمارك ، ومنع ازدواجية الضرائب ، ناهيك عن الموقف الموحد من القضية الفلسطينية أو كما كان يطلق عليه الصراع العربي الإسرائيلي، وغياب الدور العربي في العراق، والصومال، وضعفه الشديد في السودان ، ما جعل الأمير سعود الفيصل يدعو الجامعة العربية إلى التخلي عن حيادها في السودان المعرض للتقسيم ، مع قناعتنا أن كلمة ( الحياد ) التي جاءت على لسان الأمير سعود الفيصل هي كلمة دبلوماسية هادئة استخدمها بدلاً من كلمتي غياب أو ضعف لدور الجامعة العربية في السودان. وللخروج من الكبوة الراهنة للنظام العربي قدمت الورقة السعودية أمام قمة سرت حلولاً واقعية سهلة التنفيذ وبدون تكلفة مادية أو عقد المزيد من القمم أو الاجتماعات الوزارية تمثلت في الدعوة إلى التركيز مرحلياً على النهوض والارتقاء بالعمل العربي المشترك ليكون بالفعل والممارسة على الصعيدين العربي والدولي، والالتزام الجاد والعملي بما سبق الإجماع عليه من إصلاحات ومقررات وضمان المصداقية والجدية في تنفيذ القرارات ، أي أن المطلوب الالتزام بما يتم الاتفاق عليه في إطار سياسة ترتيب البيت العربي من الداخل حتى يكون سكان هذا البيت في وضع يسمح لهم بالتعامل مع الجيران بثقة وندية وقدرة على الاستفادة من مزايا العلاقات المتكافئة وعدم السماح للآخرين بالتدخل في شئونهم الداخلية من بوابة الاختراقات في المناطق غير المحصنة، أو إعطائهم فرصة اللعب بأوراق القضايا العربية في الشارع العربي وتجييشه لصالحهم ، أو استغلال الخلافات العربية العربية في تشكيل محاور وأحلاف في وقت يعاني فيه العالم العربي من سياسة الاستقطاب والتجاذب الإقليمي والدولي ، ومن قضايا عصية على الحل ،وتعاون يراوح عند الحد الأدنى على أقصى تقدير، وغياب إستراتيجية موحدة للتعامل مع القضايا المصيرية . مازلنا كعرب في حاجة ملحة إلى قراءة الذات ، ومراجعة الإنجازات ، ورسم خريطة واقعية للطموحات ، ووضع إطار مرجعي للتعاون على كافة المسارات ، والاعتماد على الذات في حل قضايانا ، وتحصين الأمن القومي العربي بالتكامل الفعلي وسد الثغرات وتقديم الحلول الواقعية وليس الشعارات ، خصوصاً أن القضايا المطروحة حاليا على الساحة العربية تختبر مدى قدرة النظام العربي على التعامل مع التحديات ، بل تحدد مدى قدرته على الاستمرار أو الذوبان في محيطه الجغرافي وتكون دوله بقعة في الشرق الأوسط الكبير الذي خطط له الرئيس الإسرائيلي شيمون بريز. *رئيس مركز الخليج للأبحاث