«إن في ملك فؤاد بلبلاً لم يتح أمثاله للخلفاء» شوقي ونكمل صلة لما سبق من علاقة الشاعر شوقي بفن الغناء ورموزه.. بأنه رغم هذا الاحتفاء الكبير بفن الغناء ورموز من خلال ما عرضناه من قصائد شوقي حول عبده الحمولي وسلامة حجازي وعبد الحي حلمي وسيد درويش، وهو استعراض لكتاب المؤلف أحمد عنتر مصطفى " شوقيات الغناء" ( المجلس الأعلى للثقافة -2010)، فإنه يمثل محمد عبد الوهاب لشوقي حالة فنية رعاها واختصها وجدانياً بعاطفة فضلت على الجميع قبل أن يدعمه على مستوى التعاون الفني في كتابة النصوص الشعرية والمسرحيات له ومرافقته في سفرات شكلت زاداً معرفياً وثقافياً وتجربة أخصبت حياة عبد الوهاب مبكراً. منذ أن لامس صوت عبد الوهاب مسمع شوقي، وهو صغير ورآه يكبر أمام عينيه ووجدانيه، ظل يتابعه ويرى فيه صورة لمستقبل الغناء في القرن العشرين. ظل طيف عبد الوهاب حالة مخلِّصية وتعويضية، ففي حفل افتتاح معهد الموسيقى الشرقي عام 1929 أشار إلى موهبة كل من عبد الوهاب وأم كلثوم، وهو يوجه الخطاب إلى الملك فؤاد: "لما بنيت الأيك واستوهبته..بعث الهزار وأرسل الورقاء" وتتضح الإشارة حيث يقصد بالهزار عبد الوهاب، والورقاء أم كلثوم نفسها. وفي معرض كتابته قصيدة ترحيب بعازف الكمان سامي الشوا بعد عودته إلى القاهرة من أمريكا عام 1931 ألمح إلى موهبة عبد الوهاب في التلحين : "مصرية النبر وهابية عذبت..شدواً ونوحاً وترجيعاً وتحناناً" وفي قصيدته الهمزية التي وضعها في تمجيد ذكرى سيد درويش ذكر عبدالوهاب ووصفه خليفة لدرويش: "لقد استخلفت فناً نابغاً..دفع الفن إليه باللواء إن في ملك فؤاد بلبلاً ... لم يتح أمثاله للخلفاء ناحل كالكرة الصغرى، سرى ..صوته في كرة الأرض الفضاء يستحي أن يهتف الفن به وجمال العبقريات الحياء" ولم يكتف ولع شوقي بعبد الوهاب في ارتكازه في اللاوعي الشعري لديه بل إنه وضع مقالة جميلة نشرت في مجلة الكشكول عام 1925. "غرد عبدالوهاب غرد يا كناري النادي . واصدح يا هزار الوادي . واحْدُ الركاب وهزها يا حادي. أهذا يا بلبل الوادي تغريد أم هذا وسواس الحلي على الخرد الغيد. غن من الكبد آناً. ومن القلب أحياناً. وقل عاطفة ووجداناً. آمت ببيان الحناجر. وباللحن الساحر. والعصب الشاعر. وقد وهب الله لك عبدالوهاب أندى الحناجر. وخلق لها ألين الأوتار، وخلق منها أرخم الأوتار. [...] كأنما صوتك في يدك وكل مغن صوته فيه" ( مجلة الكشكول، يونيو1925). ولعل أجمل وصف تركه شوقي لمغن لا يضارعه سوى وصف أحمد فتحي لأسمهان وعينيها في قصيدة " حديث عينين" حيث يذكر عبدالوهاب أن البيت الشعري من مسرحية "مصرع كليوبترا" كان المقصود به: "وأذن المغني تحس النسيم ..و تسمع في الكأس همس الحبب" ويعرف في أصول أو تقاليد اكتشاف المواهب الصوتية موهبة السماع والتقاط دقيق الأصوات ومختلفها في تزاحمها. ومما يلفت أن العلاقة بين شوقي وعبدالوهاب استمرت لمدة ثمانية أعوام (1924-1932)، وغنى عبد الوهاب ما مجموعه 37 عملاً لشوقي 17 قصيدة منها و19 عملاً توزعت حسب قوالب الغناء العربي منها التقليدي مثل الأدوار ( 4)، والطقطوقة (واحدة)، والمواويل( 8) والحداثي منها 6 مونولوجات، والحوارية (واحدة). ورغم أن شوقي يعتلي طليعة شعراء الفصحى الذي غنى لهم عبدالوهاب إلا أنه يأتي في المرتبة الرابعة في إحصائية المؤلفين الذي تعاون معهم فتبدأ الأولوية لحسين السيد ثم أحمد رامي ثم مأمون الشناوي. فيما تكشف الإحصائية إلى أنه غنى فترة حياة شوقي 27 عملاً بينما أكمل عبدالوهاب اختيار قصائد ومواصلة الغناء لعشر سنوات لاحقة.