في علم الجغرافيا البشرية كنا ندرس بأن الحضارات تنشأ وتستقر بجوار الأنهار , وأن صحراء جزيرة العرب بعد أن ضربها القحط تحولت إلى منطقة طاردة لمئات القبائل السامية التي انتشرت في الدول المجاورة . وأن سكان السواحل يتميزون بنفسيات انبساطية وبكم من الود والبشاشة نظرا لمجاورتهم البحر وتعودهم على مرور الغرباء والمبحرين , بينما سكان الجبال والصحراء يتميزون بالحذر والاسترابة نظرا لوعورة الوصول لهم أو المرور بهم عدا من يقصدهم من الغزاة . وكنا ندرس بأن سكان الصحراء رقيقو الأجسام دقيقو الأطراف ملهوفو الحشا بشكل ينسجم مع البيئة المتقشفة وشظف العيش بينما بنية سكان الغابات أكثر متانة وشموخا بالشكل الذي ينسجم مع الطبيعة المغدقة الوافرة في الغابة . وأن المدن المستقرة كانت تخلق تجارة رائجة ومهناً حرفية معقدة , بينما قوانين الصحراء كانت ترى نموذجها الأمثل في الفارس الوهاب النهاب محتقرة ومنتقصة من شأن من يتعاطون مع الحرف اليدوية . ولكن يبدو أن علم الجغرافيا البشري تعرض إلى ثورة بيضاء داخلية , فالقرن الماضي ومنتجاته الصناعية والتقنية ألغت الكثير من المسلمات التي كان يرقد عليها الوعي الجغرافي لقرون طويلة . فعلى سبيل المثال لم تعد الأنهار تحتكر صناعة الحضارات , بل أصبحت الحضارات تجاور مناجم الذهب والأحجار الكريمة أو لربما درب السليكون(كما في الهند )أو لربما أنهار النفط كما في الخليج . (هنا حتى أقطع الطريق على من يطلق على هذه الحضارات أو المدن التي خرجت بجوار آبار النفط بأنها مدن الملح أو مشيخات قبلية خالية من الفعل الحضاري الحقيقي , سأحيله إلى وعي شبه جمعي لسكان تلك المنطقة بات يراهن على حضارة الإنسان دون البنيان , من خلال استثمار الثروة المؤقتة والاقتصاد الريعي إلى مشاريع مستقبلية للتنمية المستدامة ) . أيضا المسلمة الجغرافية التي كانت تجعل من جزيرة العرب منطقة طاردة انقلبت وبات الحصول على فيزة عمل أو فتح مشروع صغير هو أقصى طموح الكثير من شعوب العالم داخل اقتصاد يعتبر من أقوى اقتصاديات المنطقة محمل بالوعود والفرص الثمينة التي من النادر أن تخذل الذكي والطموح , فلم يعد المناخ القاسي والبيئة الصعبة يستبيحان المكان لكن عقل الإنسان طوع مزاجيتهما وجيرها لمصلحته . وعندما نسمع الصيحات المناطقية والزعيق المذهبي والصراخ القبائلي سنعي أن الأنظمة الاجتماعية السابقة تشعر بأن المدنية الحديثة , وشروط العقد الاجتماعي في المدينة يحاصرها , فتحاول تأجيج كل ماهو متعصب وعنصري دفاعا عن مراكزها القديمة ومقدراتها المضمحلة , لكن الصيرورة الزمنية لها ناموسها الكوني الذي يكتسح في طريقه من يرفض أن يتغير أو يتحرك أو يماشي تيار الزمن الهادر , ولن يعود سكان المناطق الصحراوية والجبلية النائية يتميزون بالخوف والاسترابة من الغرباء , بعدما أصبح الغرباء يشاركونهم حياتهم بشكل يومي متصلين عبر تقنية الاتصالات ووسائل الإعلام , التي تنقلنا بلحظات إلى قلب ميادين مدن العالم . وعندما قال امرؤ القيس واصفا محبوبته : حجازية العينين نجدية الحشا ...عراقية الأطراف رومية الكفل فلم تختلف وتتخلخل مقاييس الجمال فقط بل أيضا جغرافية الجمال , فلم يعد هناك في نجد ملهوفة الحشا , بل اكتنز الحشا وطبق شحما ولحما , وبات يمثل قضية مؤرقة لصاحبته . وبعد أن كانت التجارة محصورة في فئة معينة من سكان المدينة لها بيوتها العريقة وأهلها , أصبح الجميع يحاول أن يخوض غمارها وأن يجرب لعبتها الخطرة , وبات أقصى طموح للمواطن أن يجد وظيفة حكومية ينام على مكاتبها وتضمن له راتبا يشبه الضمان الاجتماعي , بينما يقوم هو باستخراج سجل تجاري للمغامرات والتجارب التجارية . الجغرافيا البشرية باتت علما مهددا .....فهي ليست فقط تجعل خريجيها يكابدون البطالة , وعدم القدرة على تلبية حاجات السوق بل أيضا تعاني من خلخلة للكثير من معالمها وبنيانها ومسلماتها .