لم يسم شوقي بلبلاً إلا سيد درويش ومحمد عبد الوهاب، فالأول بلبل إسكندرية، والثاني بلبل في ملك فؤاد. ورغم أنه وصف أم كلثوم بأنها "حمامة الأيك" إلا أن أم كلثوم ورياض السنباطي ومحمد القصبجي أطلقوا، بنية لم تعلن!، هذا الوصف على أسمهان في حكاية شهيرة كان أبطالها الثلاثة وحضرت أسمهان مع شقيقها فؤاد تستمع إلى قصيدة "سلو كؤوس الطلا"، وجودت أم كلثوم في المقطع الجميل: "حمامة الأيك من بالشجو طارحها ومن وراء الدجى بالشوق ناجاها" وكانت أسمهان اختارت أن تجلس على الأرض بالقرب من مكان أم كلثوم، وهي من طقوس الاستماع الخاصة بها، كي تصغي إلى عود القصبجي وصوت أم كلثوم متوحدين. فاستبد بها الوجد، خاصة، وأن القصبجي من يعزف، لأن المقطع وضع لحنه على مقام يوافق مزاجيهما الناريين، وهو مقام الرصد أو الرست، الذي وضع القصبجي لها منه لحنه لقصيدتي "ليت للبراق عيناً، أسقنيها". ما جعلها تسح دموعاً لشدة ما تأثرت، فقال القصبجي مداعباً أم كلثوم: "انت قطعت كل الحمام اللي تحت رجليك!". وأعود إلى شوقي يا ترى لو عاصر أسمهان فعلاً بماذا وصفها؟. إذا كان الشاعر الأخطل الصغير وصفها بما لا يمكن أن يرقى إليه من وصف في قصيدة رثاها بها حيث عدها وتراً من قيثارة نزلت من السماء إلى الأرض. يا له من وصف! هل سيقول شيئاً على ما قاله الأخطل الصغير؟. ويستعيد شوقي ذاكرة التراث الغنائي العربي ليشكل معجم الوصف الشعري في قصائده بمعاصريه من رموز الغناء والموسيقى، فهو يشبه سيد درويش بالملحن معبد بن وهب، وبالغناء إسحاق الموصلي، كذلك شبه عبدالحي حلمي. ومما يلفت في قصائد شوقي أنه إضافة إلى قدراته في وصف فن الغناء ورموزه، ومناسباته من ترحيب وتكريم ورثاء، يفيض بوصف حالة الطرب هذه الحالة الوجدانية القصوى. مثل رعشة أو تكاد أن تكون برقاً شعورياً. إضافة إلى وصف تفنن الحنجرة في الأداء والتأثير. وتبدى وصف ذلك في مقاطع شعرية بثها في قصائدها، خاصة، تلك التي خص بها عبدالحي حلمي: كان الندامى إن شدوت وعاقروا.. سيان صوتك بينهم والراح في ما تقول مغنياً ومحدثاً.. تتنافس الأسماع والأرواح" وفي مقطع آخر من ذات القصيدة: "آهاته حرق الغرام، ولفظه.. سجع الحمام لو أنهن فصاح وذبحن حنجرة على أوتارها.. تؤسى الجراح وتذبح الأرتاح" وفي قصيدته بعبده الحمولي يتجلى الوصف في تدوير الذاكرة الغزلية والغنائية العربيتين: "وغناء يدار لحناً فلحناً.. كحديث النديم أو كعقاره وأنين لو أنه من مشوق.. عرف السامعون موضع ناره يتمنى أخو الهوى منه آهاً.. حين يلحى تكون من أعذاره زفرات كأنها بث قيس.. في معاني الهوى وفي أخباره لا يجاريه في تفننه العود.. ولا يشتكى إذا لم يجاره يسمع الليل منه في الفجر "يا ليل" فيصغي مستمهلاً في فراره" ولا يخفى على شوقي من أن يمعن وصف محاسن أداء المغني عند سيد درويش: "ربما استلهم ظلماء الدجى.. وأتى الكوكب فاستوحى الضياء ورمى أذنيه في ناحية.. يخلس الأصوات خلس الببغاء فتلقى منهما ما راعه.. من خفي الهمس أو جهر النداء" ويتنوع المعجم الشعري لشوقي في هذه القصائد مستدعياً الألفاظ ومعانيها المتصلة في جملها الشعرية وإيحاءاتها الدائرة حول معجم الطبيعة في التشبيه باعتبار أن الحنجرة موهبة، والغناء متعة، ولا يمكن أن يغيب عن بالنا اتخاذ التشابيه من كائنات الطبيعة في السماء والأرض وما بينهما: طيوراً وأزمنة وأجراماً. غير أن شوقي خص حنجرتين بوصفين هما: البلبل والورقاء. فمن هما؟. سنرى لاحقاً..