يبدأ الطفل الصغير رسم ملامح أحلامه المستقبلية فوق مساحات الورق الملون بخطوط مستقيمة، ثم تأخذ أبعاداً هندسية أخرى تنتهي عند وضع "الرتوش" الأخيرة لرسم بعض الخطى المتباعدة والمتجهة إلى حديقة المنزل، والتي تملؤها الأزهار والفراشات الملونة وتأخذ حيزاً من مساحة "فيلا" العمر، ليتحول الحلم الصغير إلى هاجس يؤرق مضاجع الوالدين في كيفية مواصلة مشوار العائلة لإكمال عقد البناء الممتد داخل كيان الأسرة. مسائل التشييد يقول "حسين الشبيلي" مدير عام مركز الاستطلاع وقياس الرأي: إنه في البداية يجب أن نفرق بين حجم الطلب على المساكن والمقدرة الفعلية لامتلاكها، فالكثير من الإحصاءات لا تركز على هذا الجانب المهم، مضيفاً أنه بحسب الإحصاءات الأخيرة فإن حجم الطلب على الوحدات السكنية قدرت خلال سنوات خطة التنمية التاسعة ب 1.25 مليون وحدة، أي بمعدل 200 ألف وحدة سنوية، لافتاً إلى أننا نفتقر إلى الإحصاءات الخاصة بقدرة الطبقات المتوسطة والمحدودة لامتلاك المساكن، إضافةً إلى ذلك فان الحاجة ملحة لإعادة النظر في مسائل التشييد، ذاكراً أن هناك تجارب عالمية مطبقة حديثة يمكن أن تكون مخرجاً مهماً في وضعنا الراهن، وهو تغيير نمط إنشاء المسكن، حيث لا يزال ضمن الحدود العليا، وبالإمكان الاستعاضة عنه بتجارب حديثة تمكن من إنشائه بمواد جديدة، يمكن معها إنشاء مسكن في حدود مائة وخمسين ألف ريال. أنظمة القطاع العقاري وشدد "الشبيلي" على ضرورة أن نعيد النظر في أنظمة القطاع العقاري، فكما للأنظمة الحالية فوائد، إلا أنها أُصدرت منذ عقود وتتطلب التحديث، فما كان يصلح في أعوام سابقة لا يصلح في الوضع الراهن، مع تغير نمط الحياة وتكاثر أعداد الشركات العقارية واختلاف طبيعة حاجات المواطنين مع ارتفاع نسبة التعداد، مبيناً أن نظام الرهن في حال إقراره سينجم عنه سلبيات كبيرة ما لم ندعم هذا النظام بآليات رقابية صارمة، فمن غير المضمون أبداً قيام الشخص الذي حصل على أموال عن طريق تسهيلات النظام، أن يتم صرفه في الأوجه العقارية مرة أخرى، مما قد ينتج عنه افتقاد الكثيرين لمساكنهم نتيجة رغبتهم في الحصول على سيولة. الحلم تحول إلى هاجس مع ارتفاع أسعار الأراضي وغلاء الإيجارات والمعيشة! أمر مؤسف وذكر "الشبيلي" أن الحاجة تتطلب خفض الفوائد المركبة من قبل الجهات التمويلية وإرجاعها إلى معدلها الطبيعي كما هو في البلدان الغربية، معتقداً أن الوقت قد حان لغربلة الأنظمة بما يناسب الأهداف الفعلية، لتمكين المواطن من ذوي الطبقة المتوسطة على أقل تقدير من امتلاك المسكن، مع وضع ترتيب أو خطة زمنية لتلك الأنطمة، وصولاً إلى تمكين الطبقة ذات الدخل المحدود من امتلاك المسكن، مشيراً إلى أن الطابع العام في حال عدم قيامنا بالمطلوب، هو استمرار ارتفاع الإيجارات بصورة كبيرة، وتحول المجتمع إلى التوجه نحو الإقامة في شقق سكنية غير ملائمة التصميم والمساحة، والتي بتنا نراها حاليا في 150 مثر وهو أمر مؤسف!. غاية في الصعوبة ويشير "د.إحسان بو حليقة" الكاتب الاقتصادي إلى أن النموذج السعودي السائد لإمتلاك منزل يعتبر في غاية الصعوبة، بل وتحول أسباب عدة لعدم تحقيقه، مرجعاً السبب في ذلك إلى أن على الشخص أولاً أن امتلاك قطعة أرض، ثم عليه امتلاك القدرة المالية لبناء منزل، وفي الحالات العامة يكون المطلوب إدخار مبلغ من المال لتحقيق حلمه في بناء "فيلا العمر"، ولذلك نجد أن الإنعكاس لهذا الواقع يكشف لنا تدني نسبة إمتلاك المواطنين لهذه المنازل، مبيناً أن نسبة التدني هذه لا تأتي من فراغ، بل لصعوبة توفير المال ومحدودية القدرة على الإدخار من قبل الأفراد، وذلك لعدة أسباب لعل من أبرزها تدني ومحدودية رواتبهم، ذاكراً أن الأسرة بشكل عام تعيش داخل هاجس يتمثل في أن يكون لدى كل أبنائها الشباب فيلا أو بيت كبير، وهذا متطلب فيه الكثير من الطموح المبالغ فيه، فالبناء في الوقت الحالي أصبح يتطلب مئات الألف من الريالات!. ترشيد الطموحات وأكد "د.بو حليقة" أن علينا مقارنة هذه الصورة المتمثلة في امتلاك مسكن مع ما يحدث إجمالاً في جميع أنحاء العالم، والذي يكون الطموح فيه امتلاك شقة صغيرة نسبياً، وتكون مناسبة لاحتياجاتها وعدد أفرادها، وتتوسع مع زيادة الاحتياجات وارتفاع الدخل المالي بما يبرر امتلاك منزل أكبر، موضحاً أن أحد الحلول المقترحة تكمن في ترشيد التوقعات لامتلاك منزل، وذلك بهدف الخروج من نفق تعقيدات تملك فيلا صغيرة، بهدف أن يكون المنزل الأول عبارة عن مأوى يقي من الإيجار أو مرحلة أولى ضمن مراحل تحسين السكن، فليس بالضرورة أن يمتلك الشاب في مقتبل حياته منزل غالي، فالبيت المناسب يجب أن يكون المرتكز فيه القدرة المالية، وليست الأماني والضغوط الاجتماعية، مطالباً بأن يكون هناك ترشيد للطموحات من أجل أن يكون هناك سقف مناسب للقدرات، لافتاً إلى أن المباهاة بالسكن قد تدفع بالمواطن أحياناً لتملك "فيلا دوبلكس" تتجاوز قيمتها المليون ريال، في حين أنه باستطاعته تملك شقة بربع تكلفة الفيلا بما يوازي 250 ألف ريال. نقطة التمويل المالي وأوضح "د.بو حليقة" أن الموظف يستطيع توفير مبلغ 250 ألف ريال في الثلاثة سنوات الأولى من حياته العملية على أقل تقدير في حال كان موظف براتب أعلى من المتوسط، مشيراً إلى أن نقطة التمويل المالي تقف عائقاً أمام تملك السكن، نظراً لأن تكلفة التمويل التي تتقاضاها البنوك المحلية لدينا عالية جداً، فعلى سبيل المثال لو أراد مواطن تملك شقة بقيمة 250 ألف ريال نقداً، فإنه سيضطر لدفع ضعف قيمتها أو أكثر بتمويل لمدة عشرين عام، نظراً لأن التكلفة قد تصل إلى 500 الف ريال، مبيناً أن قرب صدور نظام الرهن والتمويل العقاري قد يساهم في تخفيض تكلفة التمويل. الصناديق الحكومية وأكد "عبد الله الأحمري" رئيس اللجنة العقارية في غرفة جدة، أنه في ظل هذا الغلاء الفاحش الذي وصلت إليها العقارات، فلن يستطيع الشباب تملك وحدات سكنية، ما لم تقوم الدولة بالمساهمة في هذا الإسكان، ويكون ذلك عن طريق المؤسسة العامة للتأمينات الإجتماعة أو مصلحة معاشات التقاعد، لأن هذا المواطن موظف يعمل في قطاع خاص أو حكومي ويخصم منه من خلال هذه المؤسسات، مطالباً بضرورة أن تمول الصناديق الحكومية هذا المواطن حتى يستطيع أن يمتلك وحدة سكنية، متمنياً أن تتفق كل الأمانات في مناطق المملكة على أن تمنحه حق الخيار بين إعطائه منحة أرض أو وحدة سكنية، وذلك بعد أن صرحت مؤخراً أمانة مدينة جدة بذلك، فمعظم الأراضي التي تم توزيعها في السابق لم تتم الاستفادة منها رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً، وذلك بسبب موقعها الجغرافي في أطراف المدينة وصعوبة وجود الخدمات العامة. سلبيات البديل الآخر وأوضح "الأحمري" أن بعض أفراد المجتمع يرفض تبديل حلم الفيلا إلى شقة سكنية، رغم صعوبة تحقيقه وزيادة قنوات الصرف عليه من حيث الخدم والأثاث وخلافه، لقناعتهم بأن البديل الآخر سلبياته كثيرة، فالشقق المتجاورة داخل المجمعات السكنية عبارة عن سلسلة من المعاناة لا تنتهي، خاصة وأنها أصبحت ثقافة دخيلة على المجتمع الذي لم يعتاد العيش في مساكن متجاورة، ولكن هذا التوجه في السكن سيقلص التمدد الأفقي، ويتجه بنا إلى التمدد الرأسي الذي يخدم الكثير، للحد من الانتشار العمراني خارج النطاق، خاصة في المناطق التي تفتقر للخدمات العامة مثل السيارات والكهرباء والصرف الصحي. تقبل الواقع المؤلم وطالبت "عزيزة المنصوري" رئيس ومالكة شركة عزيزة منصور للعقار، بضرورة أن تتكاتف جهود الشركات العقارية لمساعدة ذوي الدخل المحدود لبناء وحدات سكنية بأقساط ميسرة تتناسب مع راتبهم على المدى البعيد، متمنيةً أن يتجاوب المسؤولين بالدولة على طلب منحهم أرض كبيرة قريبة من المناطق العمرانية لتوفر الخدمات العامة، ونقوم ببناء وحدات سكنية لا تقل عن 1000 وحدة على مدى خمس سنوات، مؤكدةً أنه على الشباب تقبل الواقع المؤلم ومحاولة تبديل حلم الفيلا إلى شقة، رغم ما وصلت إليه قيمة الشقق الصغيرة المكونة من أربع غرف إلى ما يقارب من 700 ألف ريال، بعد أن كانت بقيمة 250 ألفاً، في الوقت الذي لا تستطيع فيه بمساحتها الصغيرة أن تفي باحتياجات الأسرة في حال زاد عدد أفرادها إلى أربعة. نسب معكوسة وشرح المهندس "محمد با بحر" مدير الاستشارات والتثمين بشركة أعمار العربية، العوائق التي تقف وراء فرص تملك فيلا العمر، والتي من أبرزها ارتفاع أسعار الأراضي السكنية لمستويات قياسية أصبح فيها سعر الأرض يفوق البناء الذي عليها، أي أن سعر الأرض يشكل من قيمة العقار السكني ما نسبته (60%) وتكاليف البناء (40%)، وتعتبر هذه النسب معكوسة على مستوى العالم إذ إنه في الأصل يجب أن لا تتجاوز قيمة الأرض عن (30%)وتكاليف البناء (70%)، مرجعاً أسباب ارتفاع أسعار الأراضي السكنية إلى ارتفاع الطلب على السكن، وذلك بسبب الزيادة السكانية والهجرة نحو المدن والمضاربات العقارية وقلة الأراضي، بسبب حدود النطاقات العمرانية وعدم توفر الخدمات في مخططات المنح وعدم تطوير الأراضي الخام من قبل ملاكها أو عرضها للبيع، إلى جانب عدم الإفصاح عن قيمة الأراضي الحقيقية عند إتمام الصفقات، وارتفاع قيمة مواد البناء مثل الحديد أو "البلك" وقلة الرقابة، حيث إنه عند ارتفاع الحديد على سبيل المثال ترتفع بقية مواد البناء بشكل تدريجي وبدون سبب مقنع. ثقافة اقتصادية ناقصة وأكد "با بحر" أن مستوى الدخل في المملكة جيد، ولكن بسبب ارتفاع أسعار الأراضي وتكاليف البناء أصبح منخفضاً، وبالتالي لا يستطيع المواطن أن يجاري قيمة هذه التكاليف بدخله، لا من ناحية الادخار ولا من ناحية التقسيط، في ظل عدم وجود مصادر تمويليه كافية تغطي هذا الطلب العالي على السكن، مشيراً إلى أن محدودية الثقافة الاقتصادية عند المواطن من حيث الادخار أو تفهمه لأنظمة التمويل غير صحيحة، حيث أن التمويل من قبل البنوك أو الشركات أفضل في الوقت الحالي حتى لو تضاعفت القيمة على المستفيد لسبب بسيط، فالبنك يحصل على فائدة من (3 %) إلى (6%) سنوياً، بينما ارتفاع أسعار العقارات السكنية سنوياً في الوقت الحالي تصل إلى متوسط (15%)، لذا يجب على المواطن أن يفهم كيف يحسب فائدته من التمويل، مع التنبيه إلى أن هذه المعادلة ليست ثابتة، فقد تتغير حسب مقتضيات السوق العقاري في السنوات القادمة. مستشارون اقتصاديون واعتبر المهندس "با بحر" عدم وجود مستشارين اقتصاديين أو خبراء عقاريين يقدمون خدمات الاستشارة للمواطن لكيفية الحصول على منزل العمر، أحد العوائق التي تبدد أحلام اقتناء المسكن، مبيناً أنه لا توجد لدى المواطن ثقافة الاستشارة والتي أدت به إلى مشاكل كبيرة مثل المساهمات، إضافةً إلى رغبته بالسكن بجوار أهله وأقاربه، وهذا ما سبب له عبأ أكبر في الحصول على أرض بسعر مرتفع جداً، ناصحاً بأن يلبي المواطن احتياجاته السكنية بالتناسب مع دخله من حيث المساحات أو مراحل البناء.