يطرح بعض الباحثين هذا السؤال في سياق التقصي لمشهدنا التربوي. بل إن بعضهم في سياق النقد لهذا المشهد يطرح إجابة اعتراضية على مشروعية السؤال: وهي أن تعليمنا لم يدخل عصر الحداثة، حتى يشرع لنا طرح السؤال عن ما بعد الحداثة. وللإجابة على هذا السؤال يجب النظر في بعض القضايا المرتبطة بالحداثة نفسها وما بعد الحداثة، بالقدر الذي يهمنا في المجال التربوي. فمن ذلك أن الحداثة وما بعد الحداثة يمكن أن ينظر إليهما من ثلاث زوايا أساسية أولا: أن كل واحدة منهما فترة زمنية، الثانية، أن كل واحدة منهما حركة فكرية، والثالثة أن كل واحدة منهما حالة عقلية. الحداثة بوصفها فترة زمنية: ظهرت بواكير الحداثة على أنقاض ما قبل الحداثة، في نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر الميلاديين، مع ظهور ما عرف بعد ذلك بعصر التنوير. وامتدت حتى منتصف (أو بداية) القرن العشرين. فنحن الآن تاريخيا لسنا في عصر الحداثة، بل في عصر ما بعد الحداثة، وعليه فالحداثة الآن تعد ماضوية. ولذلك فمن الباحثين من يفرق بين الحداثة والتحديث. الحداثة بوصفها حركة فكرية: فهي حركة فكرية كان لها أعلامها وأنصارها، وكانت قائمة على الإعلاء من شأن العقل بوصفه مصدرا وحيدا للحقيقة. وكانت تنظر للوجود بشقيه الطبيعي والاجتماعي على أنه منظم بشكل عقلاني آلي، وأن الإنسان قادر من خلال الملاحظة والتجريب على الوصول إلى حقيقة هذا الوجود. فهي هنا أقرب إلى المذهب أو المدرسة الفكرية، التي أصبحت لدى البعض آيديلوجية. الحداثة بوصفها حالة عقلية: بمعنى أنها تلتزم الجانب العملي الواقعي أكثر من المذهبي. فهي تدعو إلى الاعتماد على الجانب التجريبي وإعمال العقل في ملاحظة الواقع والتعامل معه، دون الركون إلى أحكام أو افتراضات مسبقة. وفيما يخص ما بعد الحداثة فيمكن أن تنطبق عليها هذه التقسيمات أيضا. ولذلك فيمكن النظر إلى ما بعد الحداثة على أنها امتداد للحداثة، أو على أنها آلية من آليات الحداثة لتطوير نفسها، أو هي طور من أطوار الحداثة، وهناك من يرى أنها قطيعة مع الحداثة وانقلاب عليها. وعليه فالإجابة على السؤال الأساس: هل دخل تعليمنا عصر ما بعد الحداثة؟ يجب أن ينظر له من خلال هذا التقسيم. مما يجعل الإجابة أكثر تعقيدا مما نتصور لأول وهلة. فأولا، افتراض الخطْيّة أو التساوق في دخول تعليمنا مرحلة من المراحل فيه نظر. فلا يعني أن التعليم في البلاد الغربية مرّ بشكل خطي بمرحلة ما قبل الحداثة ثم الحداثة ثم ما بعد الحداثة، لا يعني هذا أن جميع نظم التعليم في العالم يجب أن تمر بنفس هذه المراحل وفي نفس التساوق الخطي. فالتعليم في الغرب مرّ بذلك في الجملة نتيجة لأن هذا هو التطور الطبيعي الذي مر به الفكر والمجتمع بشكل عام هناك. لكن هذا ليس أمرا حتميا في كل الثقافات. فمن السائغ جدا (نظريا على الأقل) أن يدخل تعليمنا مرحلة ما بعد الحداثة بصورة من صورها، وينجح في ذلك، ولو لم يدخل مرحلة الحداثة. بل إن هذا قد يجعلنا نتفادى أخطاء أو عثرات الحداثة. فليس من الحكمة (ولا من المنطق) أن نقول لا يمكن أن يدخل تعليمنا (أو فكرنا بشكل عام) مرحلة ما بعدالحداثة حتى نمر بمرحلة الحداثة، كما يقوله بعض المفكرين التربويين. بل قد يكون هذا غير ممكن، لأن الفكر التربوي يتسلل ويتسرب في الأدبيات التربوية بشكل طبيعي وربما دون شعور. ولأن النقل المتعسف للفكر والتطبيقات التربوية الذي يلتزم التطور الخطي ينتج تطويرا شكليا مختزلا. فمثلا، مناهجنا الآن مليئة بالحديث صراحة أو ضمنا عن التعددية والتعايش بين الحضارات، واحترام الرأي الآخر والثقافات الأخرى، وهذه كلها أطروحات ما بعد حداثية. بل ربما يكون نسبيا تبنينا لأطروحات ما بعد الحداثة أكثر من تبنينا لأطروحات الحداثة. وأخشى أن هذا الإصرار على التحديد القاطع لدخول تعليمنا للحداثة ثم لما بعد الحداثة مبني على النظر على هذين التوجيهين من الناحية الشكلية والسطحية، بمعنى أن يكون معيارنا للحكم على الدخول من عدمه هو جوانب شكلية أو تطبيقية هامشية (أو فرعية متطرفة) مرتبطة بأحد هذين التوجهين، لا بأصولهما الفكرية وتطبيقاتهما الأساسية. ثانيا، الحداثة قامت انتفاضة على الفكر الميتافيزيقي- الديني كما هو في الفكر الغربي، وبالتالي فهي قطيعة وربما عداء له. وفي مجتمع أسسه الفكرية دينية كمجتمعنا، ويشكل الدين فيه عاملا أساسيا سواء على مستوى الفكر أو مستوى الممارسة، يصعب القول بأن التعليم قد تبنى الفكر الحداثي. لكن هذا لا يعني أنه لم يتبنَّ الحداثة بوصفها حالة عقلية. فأنت ترى في مناهج التعليم لدينا الفكر الديني الغيبي البحث إلى جوار المنهج العلمي التجريبي. ومن الأكيد أن مما ساعد على هذا عدم ظهور قضية التعارض بين الدين والعقل في الرؤية الإسلامية التي عانى منها الفكر الغربي. وعلى هذا فيمكن القول إن تعليمنا قد دخل مرحلة مهذبة أو مكيفة من الحداثة، حاول فيها الانعتاق من الحداثة بوصفها حركة فكرية. وأرى أن مناهجنا وتعليمنا بشكل عام نجحت في هذا إلى حد كبير. وربما هذا ما يسّر لها الولوج السهل في مرحلة ما بعد الحداثة، بحيث لم تعان من إرث الحداثة بوصفها حركة فكرية. ثالثا، انتقال تعليمنا من مرحلة إلى أخرى أو تأثره بها يأتي غالبا بشكل متدرج وتلقائي، بحيث يصعب إدراكه دون سبر قريب. وذلك أن التغير يحدث بشكل عفوي في كثير من جوانبه وتبعا لتغير الفكر التربوي العالمي بشكل عام. فكثير من الإصلاحات في النظم التربوية تتم تجاوبا مع التطور التربوي العالمي دون الشعور بمدى ارتباط هذه التغيرات بتيار فكري معين. المشكلة الآن تأتي من قدرة الفكر التربوي لدينا من المواءمة بين مبادئ مابعد الحداثة والاسس الدينية التي يقوم عليها تعليمنا. فالطرح ما بعد الحداثي يتعارض مع الطرح الديني من جهة أخرى غير الجهة التي يختلف فيها الطرح الديني عن الطرح الحداثي. فلئن كان الطرح الحداثي انقلابيا على الطرح الديني أو عدائيا، فإن الطرح مابعد الحداثي يتعارض مع الطرح الديني بشكل عام والإسلامي بشكل خاص على مستوى مبدئي. فالطرح الديني في جوانب متعددة منه طرح مطلق، وتصنيفي تمييزي (ولا أقول إلغائي) على المستوى الفكري. مثلا من المجمع عليه عند المسلمين وهو من الضرورات الدينية أن (َمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [آل عمران85]، وهذه في الرؤية ما بعد الحداثية تُعد (سردية كبرى) أو حقيقة مطلقة، وهو ما لا تعترف به. ومع أن أنصار ما بعد الحداثة يختلفون في تقرير حدود السرديات الكبرى، تبعا لاختلافهم في مستوى النسبية، إلا أن مثل هذه القضايا المطلقة تعد (على أقل تقدير) مشكلة بالنسبة لمابعد الحداثة. ومثل هذا يقال على كثير من الأحكام القطعية في الإسلام. فهي بناء على الرؤية الحداثية حقائق نسبية ويجب أن لا تكون مطلقة، بينما هي في الرؤية الإسلامية حقائق مطلقة وعدم (الاعتقاد) بها ينبني عليه أحكام تتعلق بالآخرة وربما بالدنيا أيضا. لكن يبقى أن هناك قضايا في الرؤية ما بعد الحداثية تبنتها مناهج التعليم لدينا، ويمكن أن تتبناها، بل قد تكون مخرجا لمناهجنا من العنت والتزمت الحداثي. فمن ذلك: قبول الرؤية الدينية من حيث المبدأ، فما بعد الحداثة لا تعيش حالة عداء مطلق مع الدين، كما فعلت الحداثة باعتباره لا علميا، بل يمكن القول بأن ما بعد الحداثة تتعايش مع الدين، بل ربما تشجعه، خاصة إذا كان يغلب عليه طابع الروحانية والشخصية والنسبية. وكذلك وضع شيء من القيود على العقل، والقبول من حيث المبدأ على الأقل بوجود طرق أخرى للوصول للحقائق، وليس الحقيقة، إذ إن ما بعد الحداثة تنفر من تحديد حقيقة واحدة. وأيضا التعددية، خاصة في الجانب الاجتهادي من الفكر الإنساني. ويلحق بذلك التعارف والتشارك العادل في المشترك الإنساني في حالات السلم، ويمكن أن يضاف أيضا نسبية كثير من الحقائق. وبالتأكيد، فكما عانى تعليمنا ، وفكرنا التربوي بشكل عام، مع الحداثة، فسوف يعاني مع مابعد الحداثة، ويحتاج الأمر إلى دراسة أعمق في الفكر ما بعد الحداثي لتحديد جوانب الاتفاق وجوانب الاختلاف أو التعارض وكيف يمكن التعامل معها. ويساعد على هذا الجو السلمي المتكافئ المنفتح الذي تهيئه الحالة ما بعد الحداثية. فالحداثة (ثم الحداثوية) كانت شرسة في التعامل مع خصومها، إلغائية إقصائية، بحيث انها لم تسمح لأصواتهم أن تظهر، وهذا خلاف الوضع في التوجه العام فيما بعد الحداثة.