نكتب من حين لآخر عن بعض أوجه القصور في تنميتنا الوطنية؛ لأن وراءنا ملكاً لا يريد منا أن نحول مهمتنا إلى التوقف عند تلك المنجزات الكبرى، والتغني بها مهما كان حجمها.. وإنما يريد أن تسهم الصحافة في دفع الوطن كل الوطن نحو تحقيق أحلامه، لكنْ ثمة منعطف أو مفصل سنوي يستدعي منا ومن واجب الإنصاف أن نتوقف قليلاً؛ لنستعيد قراءة خطواتنا (في ذكرى يوم الوطن) منذ كان هذا الوطن بمثابة غابة لا حياة فيها إلا للقوي، قبل أن يمتطي ذلك الفارس العظيم صهوة جواده ليلملم أطرافه تحت راية التوحيد الخالدة، وليصنع منه وطناً لا يشبه سواه.. ليس لأنه يضم أطهر البقاع وحسب، وإنما لأنه وطن القبائل المتنازعة التي شكل منها الراحل الكبير قبيلة الوطن الكبرى، واستثمر قواسمها المشتركة في الإباء والنخوة وفضائل الشيم لينسج على نولها واحدا من أجمل الأوطان وأكثرها حضورا في كل الميادين. رغم بؤس الصحراء ورغم شح الموارد، ورغم سطوة الجهل ورغم.. ورغم.. لكن عزيمة الرجال، وإرادة الرؤية البعيدة المدى كانت أكبر من كل التحديات على شراستها.. كانت أكبر من روح الفرقة، وأكبر من كل معطيات الشتات. وبما أن هذه الرؤية ليست قراءة تاريخية، بقدر ما هي وقفة صغيرة لغناء العرضة وأهازيج السامري ورقصة المزمار..على رصيف احتفالات الوطن بيوم مجده، فإننا لن نمعن في التوقف عند تلك المرحلة التي استنزفت الكثير من الدم والجهد والعرق من الملك عبد العزيز ورجالاته، والتي سجلها التاريخ في أرومته، والتي لا تزال حتى اللحظة تستثير شهية الكثيرين لقراءة تاريخ هذا الوطن، وما شهده من التحولات الضخمة في غضون ثمانين عاما منذ إعلان توحيده العام 1351 ه، لهذا فإننا سنحاول فقط أن نجمع بعض أطراف المعادلة.. ما بين التشتت والوحدة، ما بين اقتصاد الغزو واقتصاد المعرفة، ما بين الجمود والحضارة، ما بين رفض تعليم البنات وجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، ما بين طب الصرائر والكي وطب فصل التوائم، ما بين اللا أمن والأمن الشامل، ما بين الخوف من الغد القادم ومواعيد المستقبل المضيء فيه. الرافضون لتعليم الفتاة يوماً يحتفلون ب«جامعة نورة» أجمل ما في مسيرتنا الوطنية ولعل أجمل ما في هذه المسيرة التنموية الوطنية.. أنها لا تحتاج دائماً العودة للكتب ولا إلى التاريخ.. إذ لا يزال بيننا حتى الآن من يستطيع استعادة بعض ملامح تلك الصورة، ممن لا يزال يتذكر حياة الطين وملامح الجوع والقلة، ما يجعلنا أكثر قدرة على ملامسة ذلك الأمس بأيدينا واستدعائه ليواجه اليوم لربط أطراف المعادلة وفق شواهدها، وهو ما يجعل بالنتيجة من هذه التجربة تجربة مختلفة وثرية.. لأنها لا تتناول ماضياً سحيقاً أكل عليه الدهر وشرب بحيث يصعب تبين حروفه، ولا أمساً نائياً طمسته الليالي والأيام، وإنما تتناول بالفعل ماضياً لا تزال بعض الكاميرات الفيلمية تحتفظ به في ذاكرتها، ولا يزال صدى صوته يتردد على ألسنة بعض الشيوخ ممن عاصروه أمد الله في عمرهم. جامعة الأميرة نورة وطريق الورود لم يكن طريق جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن.. هذا الصرح الأكاديمي العملاق طريقا مفروشا بالورود.. لتكتمل هذه الجامعة هكذا في غضون سنوات قلائل كجامعة نسائية رائدة.. كان منطلقها الأول الذي لم يغادر خمسة أو ستة عقود رفضاً اجتماعياً قاطعاً لخروج الفتاة من بيتها للتعليم في مجتمع غارق في سديم ظلم الجهل والتخلف، بمعنى أنها ولدت من رحم الرفض.. لأن الملك فيصل -رحمه الله- والذي استقى من الملك المؤسس آلية بناء الأوطان.. كان يمتلك من الإيمان بالعلم ما يكفي لأن يتصدى لكل دعوات الرفض المثخنة برؤى صغيرة لا تتجاوز خطو القدم ليقرر البدء بتعليم البنات كخطوة أولى نحو صناعة الغد، وفي تلك الساعة ما كان هنالك من ينتظر مواطنة كثريا عبيد على مداخل هيئة الأممالمتحدة، ولا حياة سندي أو خولة الكريع أو غادة المطيري في معاملهن البحثية، أو نورة الفايز على أبواب وزارة التربية.. كان جو القلق من هذا التجاوز هو سيد الساحة.. غير أن الرؤية والبصيرة النافذة، والإصرار على بناء المرأة السعودية القادرة على صياغة التربية وصناعة المستقبل.. كانت أكبر من حجم الرفض على شراسته.. فانطلق تعليم البنات بآلياته التي حافظت على موازين العفة والكرامة ليضع اللبنات الأولى لامرأة هي اليوم من يصنع الفارق الحضاري في مسيرتنا التنموية، خاصة في ظل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز -حفظه الله- الذي حقق معادلة الأجنحة مؤمنا بأن الوطن لا يمكن أن يحلق إلا بجناحيه الرجل والمرأة على حد سواء.. فكان أن دفع بجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن إلى الوجود لتضع حجر الأساس للمرحلة الجديدة.. في مواكبة مع رؤيته الأممية التي أنجزت (كاوست) تحت عنوان العلم للجميع لتحقيق مبدأ الاستخلاف وعمارة الأرض. الآن ونحن في مواجهة أكثر من ثلاثين جامعة ما بين حكومية وأهلية.. ليس في قطبها الأول ما يشير أبداً إلى إمكانية بناء واحدة منها في ظل سياقات معتمة خارجة من بؤر اجتماعية مشبعة بغربة بيت الشعر وانزوائه في جوف الصحراء، ومكتوية بفروسية الغزو ولوعات الثأر والبحث عن الذات في مكان آخر.. ما كان العلم والتعليم على الإطلاق واحدا منها.. أين نجد أنفسنا؟.. وماذا يمكننا أن نقول عن تلك الأشواط التي قطعناها تارة مع المؤسس على ظهر جمل أو صهوة جواد في معارك الوحدة، وأخرى مع الملوك الذين تابعوا مسيرة البناء الحضاري في صفوف المدارس وقاعات الجامعات ومعامل البحث العلمي، وأخيراً مع رجل المرحلة الملك عبد الله بن عبد العزيز -أيده الله-.. في معامل جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية؟. المترددون في الحوار يشاركون اليوم مع أطياف المجتمع عزيمة الرجل النادر في حقيقة الأمر.. ليس من اليسير استقصاء حركة التنمية النوعية في عهد الملك عبد الله وهو الذي استهل عهده باستدعاء حلم الربع قرن ليفاجىء العالم فيه ببناء بيت الحكمة الجديد، في أضخم عملية استرداد تاريخي لمجد الأمة المندثر بفعل النكسات والنكبات التي مرت عليها في تاريخها الحديث، واستسلامها لديماغوجية الشعارات لمحاكاة ضمير الشارع العربي المتعطش إلى أي انتصار حتى ولو كان مجرد وهم، حيث تنبه الزعيم الأقل كلاماً بين الزعامات، والأكثر فعلاً إلى أن طريق المجد لا يسير باتجاه الشعارات الفارغة التي لا تطعم خبزاً، وإنما هو يبدأ من خلال عملية تفتيح العقول وبناء الإنسان؛ لذلك لم يكتفِ بكاوست ولا بتلك الجامعات الثلاثين التي انتظمت في كل أرجاء الوطن في عهده، وإنما حرك أكبر عملية ابتعاث يشهدها الوطن منذ فجر تاريخه، بإيفاد ما يقارب المائة ألف طالب وطالبة لقارات العالم الخمس؛ ليعيد بناء المجد طوبة طوبة بعقول أبنائه وبناته، دون أن يغفل مصادر القوة الأخرى التي تتمثل في بناء الساعد الاقتصادي من خلال المدن الاقتصادية ومدن المعرفة، وتجسير الهوة الفكرية بالحوار بين أبناء الوطن، إلى جانب الحوار مع الآخر من أجل صناعة السلام، وانتزاع السلاح من أيدي من لا يعرف الحوار بسواه. ولأنه رجل إرادة.. ورجل رؤية.. ورجل دولة من طراز نادر، فقد جاءت كل مشاريعه نحو موازنة التنمية بين المناطق وهي تحمل بعداً نوعياً.. يجعل من مستقبل كل منطقة بذاتها في متناول الجميع كما لو أنها تضع خارطة طريق نحو ذلك المستقبل. ففي الحرمين الشريفين والتي جعلت منهما الرعاية السعودية ومنذ الملك المؤسس أولوية لا تتقدمها أي أولوية.. وما شهدته هذه البقاع الطاهرة من العناية والتوسعات المتلاحقة وتطوير الخدمات.. يستطيع أي معتمر أو زائر أو حاج أن يرصد بسهولة كيف يحدث التغيير على مدار الساعة، وكيف انطلقت تلك الرعاية من التوسعات الأفقية في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف.. إلى العمودية كما في مشعر منى، بل إلى النوعية في توسعة المسعى، وإلى ما هو أكثر من النوعية في مشروع تنظيم سقيا زمزم المشروع الذي بلغت تكاليفه زهاء ال (700) مليون ريال على نفقة الملك عبد الله الخاصة، والذي سيجعل من هذا الماء المبارك في متناول الجميع في عبوات خاصة بعيدة عن الغش أو المتاجرة لتعميم البركة.. وكذا قطار المشاعر وغيرها من المشاريع التي تبناها -حفظه الله-.. في كل هذه المشاريع وسواها تتجلى رؤية الزعيم لدوره الإسلامي كخادم للحرمين الشريفين، وتتجلى الإرادة الفذة.. تماماً مثلما تجلت في السابق حينما نقلت تلك الإرادة جبل (تاسيوس) من اليونان لتضعه على هيئة قطع من الرخام البارد في صحن المطاف تحت أقدام الطائفين، والعاكفين الركع السجود.. وهو الرخام الذي اشتهر بمسامه التي تمتص الرطوبة ليلاً.. وتنفثها خلال النهار ليبقى بارداً تحت حفاء الأقدام.. إمعانا في إكرام ضيوف الرحمن. مشروعات التنمية الحالية أعادت التوازن بين المناطق. المحطة (80) كان من الطبيعي أن يستفز ما يحدث في المملكة من تنمية كبرى بعض القوى الظلامية، وبعض الحاقدين ليبدؤوا الترويج لأباطيلهم بذريعة أن ما يحدث إنما هو إرهاصات أولية للتغريب وما إلى ذلك من الدعاوى الباطلة.. وهؤلاء هم في الغالب ممن يجهلون أو يتجاهلون عمداً السمة السياسية التي قدمت بها المملكة نفسها للعالم، حينما رفضت أن تحيد عن مبادئها قيد أنملة، واحتفظت لنفسها بمكانتها الدولية كأحد أقطاب السلام في العالم.. تجلى ذلك في مبادرة السلام التي تبنتها وتحولت بقناعات عربية وإسلامية ودولية إلى مبادرة سلام عربية، ثم حوار الثقافات والأديان كمدخل لتثبيت السلم العالمي وحل النزاعات بالطرق السلمية، وغيرها من المواقف المعتدلة دون أن تفرط بأي حق وطني أو عربي أو إسلامي، حتى اكتسبت احترام العالم الذي أدرك أن المبادىء يمكن أن تشكل السياسة وليس العكس.. خاصة حينما يكون هنالك منهج سياسي واضح لا يقبل الإذعان، ولا يذهب للعدوان، وهو ما عبّر عنه الملك عبد الله بمنتهى الوضوح في قمة الكويت الاقتصادية.. عندما لوح بأن مبادرة السلام لن تكون مطروحة إلى الأبد على الطاولة. وعندما كسرت المملكة شوكة الإرهاب، وقدمت في هذا السياق التجربة الأنجح عالمياً من خلال برامج لا تتكىء فقط على الحسم العسكري بقدر ما تعالج جذور المشكلة الفكرية.. تبين لأولئك أن هذه الساحة رغم اتساعها الذي يضاهي مساحة بعض القارات.. ستظل عصية على كل المشككين والطامعين لسبب بسيط، وهو أن المملكة لا تستند في سياساتها إلا على ضميرها الإسلامي والعربي.. لتمضي في طريق الإصلاح والتطوير دون أن تخلع عباءتها أو تبدل جلدها، وهو ما أكسبها احترام العالم أجمع قبل مواطنيها، وهي التي تحتل أحد مقاعد قمة العشرين كبلد وازن على صعيد الاقتصاد والسياسة. شخصية الملك وصورة الأب قليلة هي الزعامات القادرة على الاقتراب من موقع الأب.. حتى ما كان يسمى بالزعيم الملهم الذي كان يحرك مشاعر مواطنيه بالخطب الحماسية وهو يعدهم بالمن والسلوى.. ما كانت لتبلغ تلك المرتبة لأنها صنيعة السياسة لا وليدة الواقع.. إذ سرعان ما تذوب وتتلاشى تلك المكانة مع أول صدمة تعيد الناس إلى واقعهم. الملك عبد الله الذي انتقل مباشرة ذات مساء من أوروبا إلى جازان أثناء تفشي حمى الوادي المتصدع مثل أي أب لا يأنف أن يحضن ابنه المحموم ويتمنى أن يحمل عنه بعض ألمه، وتناول طعامه في مقام آخر.. في حواري مكة مع البسطاء، وجال في الأسواق، ودخل بيوت الفقراء في حارات الرياض القديمة وتفحص أحوالهم.. ومنح أوسمة الوفاء للعافين عن الناس، وأشعل في مواطنيه فضائل النخوة حتى أعادها كميدان سبق، فعل كل هذا وأكثر بمنطق الأب لا منطق رأس السلطة.. لذلك أخذ مكانه في قلوب أبنائه، وهم يستشعرون معه أنه القائد الذي يعمل بعاطفة الأب للجميع.. الأب الذي يعمل بيدين.. يد لبناء المستقبل للأمة بشكل إستراتيجي، وأخرى لإعادة ضبط موازين القيم الاجتماعية بين الناس، وحفظ الكرامات، وقد أسست هذه المعادلة لقناعة وطنية كبرى جعلت منه بالفعل الملك الأب الذي يشعر كل مواطن أنه يعمل من أجله، وهي قيمة فريدة لا تتأتى لأي زعيم ما لم تكن مدعومة بسجل ضخم من المبادرات التي تذهب للجميع. ما الذي تغير؟ هل يكفي أن نتذكر صورة الأبيض والأسود لبلادنا.. لنضع أيدينا على طرف معادلة التنمية الأول؟.. هل يكفي أن نتذكر صورة الطين وأزقة الغبار، وتلك المساحات الخواء التي تفصل بين المدن لنظفر بأساس المعادلة؟، هل يكفي أن نتذكر فاقد الأمن والخوف من المفازات؟، بل هل يكفي أن نتذكر بعض حكايات آبائنا عن ذلك الماضي الذي لم يكن بعيداً؟. هل يكفي أن نسترد من بطون كتب التاريخ فلسفة الإيلاف؟؛ لنستبصر موقع أقدامنا في وطن الثلاثين مليون مواطن والأكثر من مليوني متر مربع؟. 80 يوما وطنياً..هي عمر رجل واحد.. بدلت وجه الوطن..لم ترسم زهو مدنه ومحافظاته فقط، وإنما أنجزت وهذا هو المهم.. هذه القدرات العلمية في الطب والهندسة ومختلف العلوم، وفي الاقتصاد وفي التجارة، أنجزت هذه الجامعات التي تتنافس الآن على موقعها بين الجامعات الأهم في العالم، وأنجزت هذا الوطن الذي فرض ذاته على الخارطة الدولية، وأسهم بفضل وعي قيادته في تكريس السلم العالمي، وفتح آفاق الحوار مع الآخر، وتسخير طاقات الإنسان من أجل إعمار الكون، والالتفات إلى تأمين كل متطلبات العيش الكريم لكافة الشعوب، والنأي بها عن النزاعات. إنها التجربة السعودية الفريدة التي لن تتكرر.. إلا في مرويات التاريخ وهو يستعيد في مثل هذه المناسبة الكبيرة ذكرى بناء وطن رأسه المجد، وقاعدته الثقة والوضوح. تفوق جناح المملكة في «برنامج اليوم العربي» في كندا جانب من الجلسه الأولى للحوار الوطني السابع للحوار الفكري والذي أقيم بالقصيم وينظمها مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني صورة أرشيفية لجانب من مدينة جدة قديماً جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن طالبة دراسات عليا تنهي تجربة زراعة إحدى الخلايا الجذعية تحت المجهر الضوئي جولة خادم الحرمين الشريفين يقوم بوضع حجر الأساس لعدد من المبانى والمدن الاقتصادية وعدد من المشاريع أحد الفصول التعليمية القديمة في مدينة الرياض