(تريم) ليست كغيرها من المدن - التي يبهرك جمالها الخارجي وشكلها المعاصر- التي تقدم نفسها للزائر بصورة مادية صارخة وجذابة خالية من الروح، مثل هذه المدن وإن احتفظت ببعضٍ من آثارها التاريخية ومتاحفها الوطنية المفتوحة أمام الزوار، إلا أنها تظل مقطوعة الصلة والتواصل مع ماضيها وتاريخ شعبها، الكثير من هذه المدن تقدم ذاتها على شكل وجبة دسمة سرعان ما تشبع النهم المعرفي والتاريخي لزائرها وتجرده من مشاعره الروحية ويمل المكوث فيها طويلاً، على الرغم من امتلاكها للكثير من عوامل الجذب السياحي المادي ومراكز الاستمتاع وإشباع الغرائز الحيوانية والمادية عند بعض الزائرين لها والسعي لاستبقائهم في أحضانها لأطول فترة زمنية ممكنة ليخرج منها مفلساً مادياً، وخالي الوفاض معرفياً وروحياً. أما (تريم) فليست هكذا إنها المدينة التي تحتضن بين جنباتها تراثاً عريقاً وتاريخاً تليداً، وتزخر بالعديد من الآثار التاريخية والمعالم الإسلامية.. فالرحلة السياحية إليها تمثل رياضة روحية وتربوية، وزائرها يجد نفسه ومن دون سابق إشعار وسط أكاديمية علمية تربوية، كل شيء حي أو جامد فيها يعطيك الكثير من الدروس والمعارف والقيم التربوية التي لا تتوقعها، إنها باختصار متحف متكامل ومفتوح لحاضرة إسلامية ازدهرت فيها المعارف والعلوم والقيم والمبادئ الإنسانية في مختلف المجالات الدينية والفكرية والعلمية.. شعبها عامر بالإيمان، ومساجدها الكثيرة والكبيرة، والتي يصل عددها إلى عدد أيام السنة، تفيض بالمصلين ، أما روابطها العلمية فمليئة بالدارسين من مختلف بلدان العالم، مكتباتها زاخرة بأمهات المراجع والمخطوطات، وعلماؤها بأعداد لا تحصى، وقصورها آية في الفن المعماري والزخرفي والهندسي. كلما أطال الزائر البقاء في (تريم) زادت معارفه بأسرارها التي صنعت تاريخها ومجدها المتميز، وجذبته هذه الأسرار عميقاً نحو المزيد من كنوز العلم والمعارف والثقافة والحضارة.. هذه المدينة تتفرد في قدرتها العجيبة على تقديم وجبات روحية دينية وأخلاقية، وتربوية وثقافية ومعرفية متجددة لزائرها مع كل خطوة يخطوها فوق ثراها.. أزقتها وشوارعها وساحاتها الفواحة بعبق التاريخ وروح الإسلام تقودك عبر الأزمنة والعصور التاريخية المتعاقبة نحو آفاق مفتوحة لأسفار حضارية وانجازات إنسانية تليدة ومتجددة.. في كل موقع يزوره الزائر ويقف أمامه سيجد التاريخ أمامه في شخصية أحد علمائها الأفذاذ، فهنا يقف (الأشعت بين قيس الكندي) وهناك أسد البحر (العلاء بن الحضرمي) وفي مكان آخر (رجاء بين حيوة الكندي) و (شرحبيل بن السميط الكندي) وكل أولئك القادة والعلماء الجهابذة الذين أنجبتهم (تريم) لينشروا الإسلام في مختلف بقاع الأرض سنجد كلّ واحد منهم حاضراً أمامنا يتموضع في قلب المكان، يختال بعنفوان الداعية وتواضع العالم المؤمن الزاهد، نائياً ببصره بعيداً إلى أقاصي قلب العالم الإسلامي، هنا في (تريم) يشع التاريخ من عينيْ وذهن الزائر دهشة وانبهاراً، وتزول المسافات والفواصل بين الماضي والحاضر، ولا يرى غير إشعاع هذا التاريخ وضياءه المتوهج المتدفق لينير دروب العبور نحو الغد. في مدينة (تريم) المعاصرة تظهر بوضوح حقيقة أن التاريخ هو قاطرة الحاضر وطاقته الدافعة نحو المستقبل المزدهر، وهذه الحقيقة يجدها الزائر هنا أكثر واقعية وحضوراً عن غيرها من الحقائق المعرفية التي تعلمناها من دروس التاريخ في المراحل الدراسية المختلفة. مرحلة انقطاع: كل شيء جميل ومشوّق في مدينة (تريم)، يحاول دون جدوى أن يخفي عن الزائر مأساة إنسانية كبيرة وكارثة تاريخية وحضارية مدمرة لا زالت ندوبها غائرة في الوعي والوجدان الشعبي، وآثارها التدميرية وتبعاتها السلبية حاضرة بقوة في كل موضع داخل المدينة، وداخل كل أسرة، وبالذات تلك التي عُرفت تاريخياً بمكانتها ودورها في خدمة الدين والعلم والثقافة الإسلامية.. لقد تعرضت (تريم) خلال تاريخها المعاصر الممتد من الاستقلال الوطني وحتى الوحدة، لإعصار سياسي وفكري وثقافي كاسح ومدمر، أجهز بشكل شبه كلي على (تريم) كمؤسسة دينية علمية وحاضرة ثقافية إسلامية ومنارة علم يقصدها الطلاب من مختلف دول العالم. لقد عاشت المدينة مرحلة تاريخية عصيبة ومظلمة؛ وإن كان إطارها الزمني لا يتجاوز ربع قرن إلا أن دمارها كان شاملاً، وويلاتها ومآسيها أكبر من قدرتنا على تصورها، ومثلت في أبعادها الكارثية ذلك الثقب الأسود الذي التهم كلّ ما حققته هذه المدينة عبر تاريخها الحضاري الطويل من بنيان في صروحها العلمية ، وإنجازات ومكاسب تراكمية في مختلف مجالات الحياة، وأعادها عشرات القرون إلى الوراء، أفل نجمها في سماء الحضارة الإسلامية، وفقدت مكانتها ودورها الريادي كمركز إشعاع وتنوير إسلامي عالمي. *رئيس تحرير صحيفة 26 سبتمبر اليمنية