الغائبان الأكبر من الثقافة العربية العالم العربي استطاع أن يستوعب أشياء كثيرة إلا اثنتين: الأولى ثقافة الاختلاف فعلى امتداد التاريخ العربي تنشأ الخصومة من الاختلاف في الرأي. والحديث هنا ليس عن الطوائف بل عن الخلافات داخل المذهب الواحد، وقد بلغ الاختلاف حد تحريم الشافعية للزواج من الحنفية كما حرم الحنفية الصلاة خلف الشافعية. هذا التنافر سبق المذاهب بعقود وتفاقم معها وبعدها لدرجة خرجت معها مصطلحات تستخدم لتصفية الخصوم. وقد فطن عبدالرحمن الداخل لذلك واعتمد المذهب المالكي مذهبا وحيدا في الأندلس ورحّل الحنفية من الأندلس. برغم ذلك برز الاختلاف الفقهي في نهايات الحقبة الأندلسية كأحد عوامل سقوط الأندلس، إذ انشغل الفقهاء بوصم خصومهم بالزندقة والكفر وتأليب العامة عليهم. وقد أُحرقت مئات الكتب القيمة بدافع الغيرة أو الاختلاف. وما نراه اليوم في الساحة ماهو إلا امتداد لنقص مزمن في ثقافة الاختلاف؛ فالأفق العربي لايتسع إلا لنوع واحد من الطيور. هذا النقص يعاني منه أهل الدين الذين حاولوا القضاء على الرأي الآخر، كما أنه يظهر لدى الليبراليين فما أن تختلف مع أحدهم حول موضوع ما حتى تصبح عدوا مبينا. بل لقد امتد إلى اللقاءات العلمية المتخصصة فمجرد إبداء رأي مخالف يجلب عداوة مجموعة كاملة. لهذا اعتمد كثير من الناس مبدأ السلامة والسكوت في كل الأحوال. الثانية ثقافة الديموقراطية، برغم أن كثيرا من المثقفين ينادون بالديموقراطية ويتحذلقون حولها وبها. لايفتأون يستنكرون أحادية الرأي. ولكن ما أن تتاح للمتحذلقين الفرصة حتى تصبح الديمقراطية المقبولة هي تلك المفصلة عليهم. يتحايلون للبقاء أطول وقت ممكن في موقعهم ويضيق صدرهم بالنقد وتصبح كلمة انتخابات من المفردات المحظورة. لهذا ليس غريبا أن ترى دوائر الإدارة الشمولية المستبدة داخل الأنظمة الشمولية المستبدة. المجتمع بحاجة إلى استيعاب ثقافة الخلاف لأن الخلاف يولد التنوع ، والتنوع يولد الثراء والثراء ضمان التقدم. كما أنه بحاجة إلى ثقافة الديموقراطية لأنها من الضمانات التي تحمي الحقوق وتقضي على الفساد، ولكن للأسف هذه الأشياء لاتأتي بقرار بل تحتاج إلى عقود لتستوعب الأجيال القادمة تلك الثقافات.