يذكر صاحب هذا المقال أنه في أثناء رحلة قديمة له الى واشنطن في الولاياتالمتحدة الأميركية تعرف بالمصادفة الى شاب مغترب من جنوبنا اللبناني قال له إنه يعمل هنا في مؤسسة محترمة يرأسها الإمام الشيعي المرجع السيد السيستاني. وقد ترسخ في ذهني منذ ذلك اليوم انطباع أن الولاياتالمتحدة مهتمة، في جملة ما هي مهتمة به من شؤون بالشيعة الجعفريين في العراق وغيرهم من لبنانيين وغير لبنانيين. يكفي الآن أن يقرأ العراقي أو أي نصير للعرب عربيا كان أو غير عربي بعض ما تكتبه اليوم الصحف الغربية ليرى درجة التخلي عند بعض الأوساط الدولية عن أي شعور بضرورة مد اليد لهذا الوطن العربي الكبير تذكرت هذه الواقعة أخيراً وأنا أستمع في التلفزيون الى النبأ القائل بأن الولاياتالمتحدة قررت سحب قواتها العاملة في العراق. وقد فعلت ذلك لعلمها الحالي والقديم بأهمية هذا القطر العربي الغني بمكوناته البشرية. ومنها طبعاً المكون الشيعي الجعفري الذي يشكل الكثرة من شيعة العراق والوافدين إليه. الآن يتساءل الكثيرون بتحسر عن تلك الأيام المجيدة التي كان يقال فيها عن العراق في العصر الهاشمي من تاريخه عصر فيصل وغازي إنه بروسيا العرب أي الوطن العربي القيادي القادر على مواجهة القوى الاستعمارية الحالمة منذ القِدَم بالسيطرة على بلادنا وثرواتنا، فأين نحن الآن من تلك الأيام التي كان فيها زعيم عراقي كرشيد عالي الكيلاني أو غيره يطمح في أن يصنع من العراق وسورية وفلسطين والكويت وربما غيرها دولة واحدة، بل أين نحن من ذلك العصر العراقي الذهبي الذي كان فيه شعراء العراق هم شعراء الأمة العربية ومبدعوه هم مبدعوها وأحزابه هي أحزابها، بل أين نحن من تلك الأيام التي قد حلت فيها السدارة العراقية (أي لباس الرأس الخاص بالعراقيين) محل الطربوش والقبعة اللذين اعتمرهما ويعتمرهما حتى الان أهل بلاد الشام وغير بلاد الشام من أبناء الأمة. قليلة هي الأقطار العربية التي توصلت فيها نخبتها وشعوبها الى أن تقدم نفسها بجرأة ومصداقية كما فعل عراقيو ذلك الزمن على أنهم طلائع من الغد العربي. كاد الانسان العراقي في فترة ما من حياتنا العربية الماضية أن يتحول بفعل الثقة بنياته وقدراته الى صورة سابقة عن إنسان الغد العربي في بلادنا كلها فأين نحن اليوم من تلك الرمزية النهضوية التي كان قد وفرها لنا جميعا أو لبعضنا طلائعيون عراقيون من كل جنس وقطاع ودين أو مذهب؟ فجأة تطالعنا الآن الأخبار بأن أميركا قررت وهي اليوم على الطريق الى التنفيذ، بسحب جيشها من العراق لا بمعنى إعلان الثقة برشد هذا القطر العربي وبقدرته على ادارة شؤونه بنفسه، بل بالعكس تماماً أي بمعنى الشك في أي مشروع أو في يد قد تحاول إخراجه من المأزق الخطير الذي وضع نفسه فيه شعبه ومجتمعه. وهذا ما شجع مدعي صداقة العراق اليوم على إعلان رفضهم اي نوع من أنواع مد اليد لمساعدته. انها لمفاجأة تاريخية أن يفتح الشعب العراقي عينيه فجأة على نفسه وأوضاعه فيرى ذاته متروكاً من الولاياتالمتحدة بمعنى الشك بقدرته على النهوض من كبوته في الوقت الذي كانت الولاياتالمتحدة طوال عهود طويلة من عمره تعتبره وتتعامل معه على أنه أحد الأقطار العربية الأقوى والأسلم في جسم الأمة بل والأقدر على أن يكون الرافعة لها من الوهدة التي نجده واقعاً فيها. إن العراقيين يرددون اليوم من قبيل التداوي مما هم فيه بعض أبيات الشعر الحزينة التي نفحهم بها شعراؤهم وخصوصاً كبارهم كمحمد مهدي الجواهري القائل بألم وضياع: أيا صاحبي أين وجه العراق وكيف غد صف لعيني غدا أسدوا مسارب ليل العراق أم صبغوا فجرى أسودا والواقع ان الفارق يبدو اليوم متسعاً بكثافة بين ما كان عليه عراق الأمس من قوة ومنعة حتى في عين الطامعين فيه وفي خيراته ، وبين ما هو عليه اليوم من ضعف وتراجع. فأين عراق الأمس الذي كان فيه الأميركيون يفرغون خيرة قصورهم لأهله من عراق اليوم الذي نجدهم فيه يسحبون جيوشهم خوفاً عليها من الغرق في رمال السياسة العراقية المتحركة؟ فأي عراق من بين اثنين يريده لنا الأميركيون وغير الأميركيين من جبابرة العالم أهو عراق المنعة والسيادة الذي كان دائماً (كذلك في نظرهم) وحتى أمس غير بعيد ، أم عراق الغرق في رمال السياسة الطائفية المتحركة التي نجده متقلباً عليها اليوم حتى لتزهد بالوجود على أرضه فترحل عنه قوات اكبر دولة في العالم طالما ادعت صداقته. ويكفي الآن أن يقرأ العراقي أو أي نصير للعرب عربيا كان أو غير عربي بعض ما تكتبه اليوم الصحف الغربية ليرى درجة التخلي عند بعض الأوساط الدولية عن أي شعور بضرورة مد اليد لهذا الوطن العربي الكبير الذي كان يعتبر لمدة طويلة من الزمن وخصوصاً زمن رجل الدولة العراقي نوري السعيد صديق الغرب الأكثر استحقاقا للمراهنة على سياسته. وها إن صحف العالم تأتي كل يوم بجديد من أنواع التخلي عن كل عدالة أو منطق دولي أو إنساني في تعامل الدول بعضها مع بعض. ليس العقل السياسي العربي وحده سواء في هذا البلد العربي أو ذاك هو الذي يرى جوانب الضعف والشطط في الطريقة والروحية اللتين تدير بهما الولاياتالمتحدة حربها في العراق وعلى العراق بل ان الكثير من صحف الغرب والولاياتالمتحدة نفسها تنتقد السلوكيات والتبريرات التي تعطيها حكومة واشنطن للحرب وممارساتها؟ ولعل بعض ما يصدر في صحف اميركا يفوق في العنف والشك ضد العراق كل ما يصدر خارجها ومن ذلك مقال لافت ظهر في "واشنطن بوست" بعنوان "خمس أساطير عن انسحاب القوات الأميركية من العراق" فندتها الصحيفة أسطورة بعد أسطورة، لم تترك بعدها أي مجال للبس المصنوع صنعاً بقصد نشر ولو ظل من التفاؤل بأي سياسة تأجيل للانسحاب. وهذا النوع الماكر من التعامل مع العراق الذي سلكته وتسلكه الولاياتالمتحدة بات مرفوضاً بل موصوفاً بالكذب والخداع من كبار الكتاب الأميركيين الذين يتهمون ادارة بلادهم بالديماغوجية. وفي هذا السياق عرضت صحيفة "واشنطن بوست" لما أسمته "خمس أساطير عن انسحاب القوات الأميركية من العراق" وذكرت أن "الأسطورة الأولى" هي في القول بأن "انسحاب القوات الأميركية يعني انتهاء الأعمال القتالية". وحتى تحقيق ذلك فإنه ليس وشيكاً. إذ سيبقى في العراق 50 ألف جندي غالبيتهم قتاليون. اما "الأسطورة الثانية" فهي تتمثل في القول بأنه "بفضل استراتيجية الدفق الاستثماري، بات العراق آمناً بما يكفي لعدم الانزلاق في حرب أخرى". لكن دراسات أكاديمية خلصت الى أن "الحرب تجنح الى أن تتجدد بعد 5 سنوات من وقف القتال، بنسبة 50 في المئة من الحالات، وترتفع النسبة إذا كان البلد موضع الدراسة يختزن ثروات وموارد". و"الأسطورة الثالثة" تتمثل في القول إن "الولاياتالمتحدة تترك خلفها نظاماً سياسياً محطماً". واعتبرت الصحيفة أن هذا غير صحيح، فالسياسيون العراقيون "اعتنقوا الديمقراطية، ولو مكرهين". وتقول "الأسطورة الرابعة" إن "العراقيين لا يريدون انسحاب القوات الأميركية". هنا، حذرت "واشنطن بوست" من مغبة الأخذ باستطلاعات الرأي، فهي لا تعكس "الصورة الحقيقية لتصور العراقيين الذين يشعرون بالاستياء من الوجود العسكري الأميركي". أما "الأسطورة الخامسة"، فهي القول إن كل حرب "تنتهي في موعدها المقرر". بينما لم يسجل "التاريخ الى الآن أي حرب انتهت في موعدها".