تحولت الفتاوى في الفترة الأخيرة إلى طروحات تصادمية مع الرأي العام، وإلى فوضى دفعت الكثير من غير المؤهلين إلى التجاسر على الدين من خلال التواجد في الصحف، أو المحطات الفضائية، أو الانترنت، للإفتاء في قضايا تظل بعد ذلك الشغل الشاغل للناس، وتفتح أبواب الجدل غير المحمود بين الناس وبالذات تلك الطبقات التي تتعلق بكل ما يقال، وتديره، وتعيده وكأنه هو الحق، دون إشغال العقل، أو حتى التشكيك في صحة هذه الفتوى! زاد على ذلك، الزخم الإعلامي الذي يظل مصاحباً لتلك الفتاوى الغريبة، ويعيد تدويرها مرة أخرى من خلال تركيز الكتّاب والصحف عليها، وطرحها كقضايا تستحق النقاش وإبداء الرأي، رغم أن هذا المفتي الذي أفتى قد يكون استمع إليه في الأصل عدداً لا يتجاوز اصابع اليد أو تحدث في مجالس خاصة، أو أفتى من منطلق البحث عن التواجد، أو حتى أثا ومسألة جدلية لا يزال الناس يسمعون مثلها من كثير من العلماء في دول متعددة، لكن ظل الإعلام مركزاً على مثل هذه الفتاوى، وفاتحاً نوافذ الحوار معها وكأنه ترويج للفتاوى الشاذة، والمعزولة، والتي تحاول أن تلعب دوراً سلبياً يزيد من عزلة المجتمع، واقفال مساحات تلك العقول المغلقة أصلاً! ما يعني في شأن هذه الفتاوى أن الناس وجدت ذلك ، كما تعتقد ، متنفساً للنقاش ولمن يريد أن يعرف ذلك عليه، ان يرصده من خلال المواقع الالكترونية، التي هي ترموتر للرأي العام وواجهته! وهي التي تصدّر كل ردود الأفعال لدينا، وطرق التفكير إلى الخارج، وإلى المسلمين في أنحاء الأرض، والذين يعتبرون هذه البلاد وما يصدر منها هو القدوة، وهو الرأي الذي يقتدى به حتى وإن كان معزولاً عن الإجماع! ومع انشغال الناس بهذه الفتاوى انشغل الناس بالجدل العقيم، والتشابك في الآراء، والتناقض في الطروحات والتشكيك في الآخر، وتجاهل صدى هذه الفتوى من قبل من افتاها خصوصاً وان البعض منها كان غير مضبط، وسبب الكثير من الشقاق، والبلبلة، والاختلاف، والتجاوز في المناقشات. وفي ظل هذه الفوضى يأتي أمر خادم الحرمين الشريفين الملكي - يحفظه الله - كعادته في توقيته وتفاصيله من خلال قصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء، وعدم تجاوزهم، وحتى تكون هناك سيطرة على تلك الفتاوى المنفلتة التي تصدر من بعض طلبة العلم الشرعي أو من يتوقع في نفسه أن يفتي، وتصل فتاواه إلى الآخرين، وتشغلهم عن أمور أساسية بسلبية تفاصيلها، وهامشية فكرتها رغم أن الأمة مشغولة بما هو أهم في أمور دينها ودنياها، ورغم أن هذه الفتاوى دأبت على عزل بعض العقول رغم عزلتها الفعلية التي زادت من تلك التراشقات الحوارية العنيفة بين المتهمين، وجعلت من الفتاوى دائرة مفتوحة للفوضى، جاء الأمر الملكي ليغلق هذه الدائرة ولكن من خلال إعادة الاعتبار إلى المؤسسات الشرعية، وإنهاء الفوضى الافتائية، وكما يقول الدكتور زيد الفضيل الباحث الديني في جريدة الحياة: (إن قرار الملك هو إجراء تنظيمي من شأنه في المرحلة الأولى ان يضبط حال الخلط بين الفتوى الشرعية التي قد يلتزم بها عدد من المقلدين، والتي يجب ألا تصدر إلا من جهات معروفة لدى ولي الأمر، والقرار كما يرى لتنظيم الحال، خصوصاً ان كثيرا من أفراد المجتمع ليسوا على دراية واسعة في التفريق بين الفتوى الشرعية، والرأي الفقهي الخاص، وهو ينتصر لحق الاعتدال، باعتبار أن المؤسسة السياسية هي رائدة خط الاعتدال في الوقت الراهن بما نادت به من حوارات بين مختلف الأديان). ولكن ومع هذا التقنين لقصر الفتوى استثنى القرار منه تلك الفتاوى الخاصة الفردية غير المعلنة في أمور العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، بشرط أن تكون بين السائل والمسؤول.. والتي على المسؤول أن يجتهد ويجيب كما يشاء من مفردات علمه، وليس مما سيتخيل انه سوف يشغل الآخرين به!