يروى أن ملكا رأى في المنام أن أسنانه كلها قد وقعت ولم يبق له إلا سنٌ واحدة فأرسل في طلب من يُعبّر رؤياه فقال له المفسر إنك ستفقد كل أهل بيتك ولن يبق من أهلك إلا أنت فما كان منه إلا أن أمر بسجنه، فكيف يقول للملك إن أهله كلهم سيموتون؟! ثم أمر بمفسر آخر فقال له يا مولاي أنت أطول أهلك عمراً فهنيئاً لك فأمر بإكرامه. أوردت هذه القصة لأوضح أن المشكلة ليست في الأمور ولكن في كيفية النظر لها ومن أي زاوية فالمفسر الأول رأى الرؤية بزاوية سلبية واستخدم لغة لا تعزز إلا الإحباط والتشاؤم والجزء الفارغ من الكأس بينما رأى المفسر الثاني الرؤية بزاوية ايجابية واستخدم ألفاظا تشيع الفرح والسرور والابتهاج بنصف الكأس المملوءة وتحفز للمزيد من الإنتاجية والعمل والإبداع للتعامل مع النصف الفارغة. من الأمور التي حيرتني وأزعجتني كمواطن غيور على بلادي أعمل عقلي أكثر من عاطفتي النظرة السلبية التي أشيعت حول نجاح بلادنا في تحقيق المركز الثامن في مؤشر تقرير مؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية (الاونكتاد)، وهو نجاح وطني، حيث تمكنت بلادنا من استقطاب حوالي (133) مليار ريال تقاسمتها قطاعات هامه وحيوية وإمكانية تحقيق مركز أفضل بالسنوات القادمة حيث ما زالت بلادنا تمتلك إمكانات اكبر لاستقطاب الاستثمارات تفوق ما تحقق فعليا خصوصا في قطاعي الصحة والتعليم اللذين مازالا يشهدان عوائق منعت تدفق الاستثمارات الأجنبية والمشتركة لهما. هذا النجاح والذي سبقه نجاح آخر حيث تقدمت بلادنا من المركز 67 إلى المركز 13 في أربع سنوات في مؤشر تقرير أداء الأعمال الذي يبين مدى التقدم في تحسين البيئة التشريعية والإجرائية حُوِلت إلى فشل وحُوِلت حفلة الفرح التي نريد أن نعيشها إلى مأتم بتحميل الهيئة مهمة معالجة أسباب البطالة بين المواطنين وأسباب مزاحمة الوافدين لهم في أرزاقهم في اقتناص الفرص الاستثمارية والوظائف والمهن المتاحة رغم أنها تعود لأسباب اجتماعية وثقافية. كل عاقل يعرف بأنه ليس من المعقول أن نحمل الهيئة مهمة سعودة الوظائف وإن كان عليها أن تتعاون مع وزارة العمل المسؤولة عن هذا الملف وهذا حسب علمي ما فعلته الهيئة، وليس معقولا أن نحمل الهيئة مسؤولية تأهيل الشباب السعودي وإن كان عليها أن تنسق وتتكامل مع وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي والمؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني والشركات المستثمرة الكبرى وهذا حسب علمي ما فعلته الهيئة، وليس معقولا أن نحمل الهيئة تبعات الأزمة المالية التي أعاقت العمل في المدن الاقتصادية نتيجة شح التمويل في أسواق المال المحلية والدولية وإن كان عليها أن تحث الحكومة لتمويل هذه المدن وهذا حسب علمي ما فعلته الهيئة، وليس معقولا أن نحمل الهيئة ما يترتب على انضمام بلادنا لمنظمة التجارة العالمية من دخول لمستثمرين أجانب في قطاعات غير محبذة ومخالفة بعضهم للنظام كما هو متوقع وإن كان عليها أن تتشدد في الرقابة وهذا ما فعلته الهيئة حتى ليخال لمن يراجع أن شدة الإجراء تمنع المصرح به. كلنا نعلم أن تحميل أي جهة عدم نجاح جهات أخرى بالقيام بمهامها على أكمل وجه هو خدمة للجهة غير الناجحة وحماية لها وتسطيح وتهوين للقضية التي يجب أن تتصدى لها بالكفاءة المثلى، كما أننا نعلم أن تقييم أي جهة للتعرف على مدى نجاحها إنما ينطلق من التعرف على مهامها الرئيسية التي أنشئت من أجلها ومن ثم التعرف على مدى التقدم في إنجاز مهامها ومراحل هذا الإنجاز، ولمن لا يعلم فإن هيئة الاستثمار أنشأت عام 1421ه بالتزامن مع صدور نظام الاستثمار الأجنبي الأخير في إطار برامج الإصلاح الاقتصادي والإداري الذي يقوده خادم الحرمين الشريفين حفظه الله وأوكل إليها مسئولية العناية بشئون الاستثمار، بشقيه الوطني والأجنبي، والعمل على تهيئة وتحسين مناخ الاستثمار في المملكة، وتطوير الأنظمة والسياسات والإجراءات المتعلقة به. واستطاعت الهيئة بالتعاون والتكامل مع الأجهزة الحكومية ذات الصلة وبدعم كبير من القيادة السياسية في بلادنا النجاح بمهمتها خصوصا بعد أن اتخذت من تعزيز تنافسية البيئة الاستثمارية السعودية وعناصرها من شركات ومستثمرين وموارد بشرية وطبيعية مسارا إستراتيجيا لها لكون التنافسية هي الحل الناجع في هذه المرحلة، واستخدام المؤشرات العالمية العلمية والمحايدة مرجعا علميا مقنعا للجميع لقياس مدى التقدم في ميادين التنافسية بعيدا عن الجدليات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وكل منصف يعلم أن مؤشر تقرير أداء الأعمال بمؤشراته الفرعية العشر نبه كل جهاز حكومي لواقع أدائه وأثره على تنافسية بلادنا ووضعه أمام مسؤولياته لتعزيز تنافسية بلادنا الاستثمارية وحفزه للعمل على تحقيق تقدم مقاس وفق المعايير العالمية وهذا ما كان ولله الحمد حتى أننا أصبحنا أمام تجربة إدارية حكومية تكاملية رائدة طلبت كثيرا من الدول النامية الإطلاع عليها للاستفادة منها في تعزيز بيئاتهم الاستثمارية خصوصا بعد أن أكد التقدم في مؤشر حجم الاستثمارات الواردة هذا النجاح. الهيئة نجحت في مهمتها بنسبة كبيرة والطريق أمامها طويلة وهي تجد كل الدعم من القيادة المدركة لمهامها ونجاحاتها وعلينا كصناع فكر ورأي أن ندعمها لتنجح في تحقيق الغايات الوطنية المستهدفة من زيادة الاستثمارات المحلية والأجنبية والمشتركة، وذلك عبر شرح مهمتها في المنظومة الاقتصادية لبلادنا ومدى تقدمها في تحقيق هذه المهمة بالتكاتف مع كافة الأجهزة الحكومية ذات الصلة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعبر تحفيز أجهزة الحكومة التي تعمل جاهدة ومن خلال كافة أجهزتها التأهيلية لإعداد المواطن السعودي المؤهل الجدير بالفرص الاستثمارية والوظيفية التي توفرها الاستثمارات المتنامية في بلادنا، وحيث تعمل الدولة رعاها الله على استكمال البنى التحتية في كافة مناطق بلادنا لجذب الاستثمارات لها لتحقيق التنمية الشاملة والمتوازنة في كافة أرجاء الوطن لينعم كل مواطن بكافة متطلبات الحياة الكريمة في منطقته دون الحاجة للهجرة إلى المدن الرئيسية. ختاما أسأل الله أن نحكم على أجهزتنا الحكومية العاملة في إطار مهامها التي أنشئت من أجلها بمعايير علمية ومنطقية وندعم الجاد والمنجز وإن أخطأ فمن لا يعمل لا يخطئ، وأن نحتفل بانجازات الوطن من أي جهاز كان وندعو الآخرين للاقتداء به كما نحاسب المتقاعس ليعمل أو يترك المكان لغيره أن يعمل. *أستاذ مساعد بقسم العمارة وعلوم البناء في كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود