عندما أقول هل الإسلام صالح لكل زمان ومكان، فإني أعني أمرين: الأول: عقيدة شخصية.. والأمر الآخر منهج دولة. - الإسلام عقيدة شخصية: ليس صالحا فقط، بل هو الدين الأكثر والأسرع انتشارا وإقناعا في العالم خاصة بين العلماء التجريبيين، والإحصائيات تقول أن أوروبا وروسيا سيشكل المسلمون نصف سكانها في منتصف القرن الحالي، المدهش أنه رغم كل الحملات على الإسلام وعلاقته بالمرأة، إلا أن المرأة الأوروبية أكثر اعتناقا له، ولك أن تكتفي بكتابة (آلاف البريطانيات يعتنقن الإسلام) على (Google) كمثال.. حدث ذلك بعد الجدل حول منع النقاب. - أما الأمر الآخر.. أعني الإسلام منهجا ودستورا لدولة حديثة: وهذا هو مغزى كلامي في المقال السابق... في هذا العالم يوجد ثلاثة نماذج.. دول تعلن الحكم بالإسلام، ودول غير مسلمة، ودول شعوبها مسلمة تريد الحكم بما أنزل الله لكن حكوماتها ترى غير ذلك.. الحالة الأولى تطرقت لبعض جوانبها وإشكالاتها في مقال (العلماء والسلاطين)، والحالة الثانية: ذكرت بعض هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل معها في المقال السابق، ولعل الربط يحل بعض الإشكال لدى الأخوة الأفاضل الذين انتقدوا المقال، لكن الحالة الجديدة على الفقه الإسلامي هي الحالة الثالثة، وهي حالة تستوجب التأمل طويلا، وتستدعي الاستغراب أكثر، فهذه البلدان المسلمة نسمع عنها أنها شافعية المذهب أو مالكية أو حنفية أو.. وهنا الغرابة.. الكل مسلم وموحد، ما سبب غياب الحل إسلامياً..؟ علماء يحاربون السلطة، وعلماء منعزلون، وعلماء يبررون لها كل أخطائها، وسلطة ترفع شعارات الديموقراطية والحداثة ولا تطبق منها شيئاً.. والنتيجة: شباب مشتت بين الغرق في البحر بحثا عن اللقمة، أو الالتحاق بمنظمات إرهابية، أو عصابات للمخدرات، أو يطرق أبواب السفارات تسولا، أو محبط في بلاده لا يدري ما يفعل بشهاداته، ومتى سيجد منزلاً يؤويه؟ الكل يفتي.. لكن لا أحد يدرس.. لا أحد يبحث بعمق هذه الحالة لواقع لا مناص من التعاطي معه، وإيجاد الحلول له.. العلماء ليسوا مطالبين بالإنكار أو الوعظ والإرشاد فقط أو التطبيل أو حتى تقديم أنفسهم شهداء.. العلماء مطالبون بتكوين مراكز بحوث لتقديم الدراسات والاستشارات والحلول التي تجمع الحاكم وشعبه بالإسلام إن كانوا حقا ورثة محمد عليه الصلاة السلام.. لقد ترك لنا نبينا تفاصيل غاية في الدقة في فقه العبادات لدرجة بين فيها حركة الأصابع في الصلاة، وحجم الحصى في الجمرات، وأيهما أفضل: إفطار الصائم على الرطب أم التمر، وأي الكفين يستخدم للاستنشاق، وأيهما يستخدم للاستنثار (الاستنثار إخراج الماء بعد استنشاقه) عبادات دقيقة تجعلك تتساءل أحيانا: أي جهد سيبذله العالم بعد هذا. استمعت لطالب علم شاب في إحدى الدول العربية تبدو عليه قوة الحفظ يفتي في إحدى المحطات لشخص كادح يتردد بين مدينتين يومياً من أجل لقمة العيش ويسأل عن قصر الصلاة.. شعرت بالصداع وهو يفصل أقوال الحنابلة والمالكية والشافعية والأحناف، وأظن أن السائل قد أصيب بالتعب وهو ينتظر الإجابة التي وصلت مشوشة، كنت أتساءل هل يحتاج هذا الموظف الكادح المرهق إلى المزيد من الإرهاق، وحتى لا تلوموني تأملوا كيف يفتي تلاميذ حبيبنا عليه السلام. قال أحد التابعين (سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة ؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين (الفرسخ يقترب من عشر كيلومترات) – صحيح مسلم) يالسهولة إجابته وبعدها عن التعقيد.. لم يقل هل ستمكث أربعة أيام أم أربعة أشهر.. أخبره بسنة الحبيب إذا خرج من المدينة، أما هذا السائل الكادح البسيط فلا يهمه قول هذا المذهب أو ذاك.. كان يهمه قول ربه عز وجل وقول نبيه صلى الله عليه وسلم وبراءة ذمته. أعتقد أنه لو بذل علماء تلك الدول جهودا توازي جهودهم واجتهادهم في فقه العبادات في التأصيل السياسي والاقتصادي والعسكري لدولة إسلامية حديثة، وتقديم دراسات معمقة ومقنعة مغلفة بكل لطف وود وتدرج ومراعاة للمصالح الكبرى، لربما أقنعوا أصحاب الشعارات في إخراج بلادهم من مستنقعات الفقر والجهل والتخلف التي رمتهم تلك الشعارات فيها.. لكن ماذا أقول وجامعاتنا الإسلامية بكل كوادرها المؤهلة والفذة والمليارات التي تنفق عليها لم تنجح حتى الآن في القيام بأولى الخطوات، ألا وهي تصفية السنة من الأحاديث الضعيفة والمكذوبة.