إضافة إلى كونها ظاهرة اجتماعية لها ما لها وعليها ما عليها تعتبر المنابر الدينية والسياسية والإدارية والإعلامية.. ثقافة تغذي الخطاب الوطني بما يكفل له حيويته وحياته، ويضمن تحريكه لمكامن الروح الوطنية الصادقة وإثارتها لدى الشخصية السعودية، وبالذات من غاب أو تغيّب أو غيّب عن الحراك الوطني بجميع أبعاده لعدم الإدراك أو لأسباب دينية، أو سياسية، أو لحالة احباط إداري وذلك لالتزامنا المبادئ التي أسسناها في حوار الحضارات العالمية والأديان السماوية. وهنا يتجلى نجاح الخطاب الوطني، حيث إن لم يكن ذا جاذبية تأتي بخصوصية من المواطن للوطن فقط وبإلقاء مخلص ونص صادق ومنهج واضح وهدف منطقي مع ترجمة الأقوال إلى أفعال، فإن فشله سيسبق صياغته لا محالة. خصوصاً في ظل ما نراه اليوم من صراع منبري فارغ من محتواه الوطني، متهكماً ومنتهكاً قيم المجتمع ومبادئه، تسبب في ضعف صيغة خطاب الوطن الأهم، وأبهت صبغته ودليل ذلك حقد المنبر السياسي، وغش المنبر الاقتصادي، وتصفية الحسابات الشخصية فوق المنبر الإداري وتزلف المنبر الإعلامي وتناحر المنبر الديني وضعف المنبر التربوي وجمود المنبر الاجتماعي، وكمثال على ذلك ما جاء به الآن المنبر المطوّر من فتاوى تاهت بين نفي وإثبات وتراجع، وكان من الواجب الاعتبار من المنبر الديني الذي نُصب في فترة زمنية غابرة، وصدح عليه شيوخ المراهقة البلاغية إن صح التعبير، بخطب أهملت الوطن وحقوقه، ونجحت بتأسيس قواعد جدار فكر منحرف عزل شريحة من أبناء الوطن عن وطنهم بل دفعهم نحو فوّهة استعدائه السحيقة، ليبقى أولئك خارج وطنهم وهؤلاء داخله وكأن لسان حالهم يقول بل قال أخطأنا بحق الوطن، ولم يخطئ الوطن بحقنا فها نحن نعيش وسط أحضانه معززين مكرمين آمنين مستأمنين. وبناء عليه فإن ما يرتكب اليوم من تجاوزات هو نفسه ما تم ارتكابه بالأمس القريب مع اختلاف بالأهداف واتفاق بالأسلوب، حيث الخروج عن قول الجماعة والتمرد على هيئة كبار العلماء وعدم التزام مرجعية دار الإفتاء والدعوة والإرشاد، وتجاوز أنظمة الدولة وتعليماتها كلها معطيات كادت أن توجد كارثة وطنية لا يحمد عقباها، لولا توفيق الله ثم حنكة القرار السياسي، وقوة القرار الأمني والالتفاف الفطري من الشعب حول القيادة، ومكتسبات الوطن ومقدراته. ولكي نعرف ضرر صراع المنابر المختلفة على الخطاب الوطني نُعرج قليلاً صوب المنبر الاقتصادي؛ لنرى عُصبة وعصابة من التجار يتشدقون بالوطنية والهم الاجتماعي، وهم كفصيلة الدم تلك التي تأخذ ولا تعطي، فلم ير منهم المجتمع سوى أنهم السبب الأول للبطالة والتستر، وهم من انشأ السوق السوداء لبيع التأشيرات، وهم من تحايل على الأنظمة حتى أوجد عدم الثقة بين الجهات الرسمية والشعبية كنظام بلاغات هروب العمالة هذا في كفة، وحربهم على السعودة في كفة أخرى، غير استنزاف الجيوب، وتجفيف الحسابات البنكية للمواطنين، وترك محافظ استثمار أسهمهم أثراً بعد عين، بل الأسوأ من ذلك كله ضخ أموالهم وتوظيفها في مستنقع الفساد الإداري والمالي، ونشر شباكهم فيه ليصطادوا بها كل ضعيف نفس، وقليل مروءة، سخّر وظيفته الحكومية لهؤلاء؛ لكي يحققوا عن طريقه كل أمر يرفضه النظام، ومن ثم يزاحموا المواطن الباحث عن مصدر رزق على مصدر رزقه، بينما التاجر الذي شارك فعلياً في حال وأحوال المجتمع لا يرى فوق المنبر الاقتصادي. ولو تحدثنا عن المنبر التربوي لرأينا أن العملية التعليمية، بعد عشرات السنين، عاجزة عن ايجاد مخرجات تعليمية تربوية وطنية عاملة وعالمة فقد يكون لقلة الامكانات، وما للمعلم وما عليه، وللمقررات دور في ذلك، فنحن مازلنا نستأجر المباني، ونشتكي أو يشكي منا المعلم، بل نجد عامل المقصف قد أثر في شخصية الطالب أكثر مما أثرته مادة الوطنية. أما المنبر الاجتماعي فها هم أصحاب الجهد النظري يعتلونه من دون أن نرى معهم أصحاب الجهد العملي، فلدينا كثير في البحوث العلمية عن الظواهر الاجتماعية، إلا أن طرائق المعالجة على الورق فقط، فظاهرة العنف الأسري، وحالات الطلاق، واهمال حقوق الوالدين، وأثر الشبكة العنكبوتية على الأجيال المقبلة، وظاهرة المخدرات، والأمراض النفسية.. إلخ، جميعها في ازدياد مطرد، أما المنبر الإعلامي فرسالته اختلفت عن قلمه. وللمنبر الإداري حكاية اختصرها في عيب يكفيه محاربته لكل مخلص، وتقديره لكل مداهن ومنافق، بل المحزن هو تغيير طاقم إداري له ما يغنيه من الخبرة العملية من قبل مسؤول ما؛ بحجة أنهم حاشية المسؤول السابق وبطانته، فكيف ونحن في هذه الحال نستطيع إنشاء بيئة وطنية إدارية صحية، تقوم على العمل والعلاقات الإنسانية، بل الأشد إيلاماً أن هناك مسؤولين يملكون قرار القضاء نهائياً على الحياة الإدارية لرجل وطني نزيه معطاء من دون خجل منهم أو وجل. ومع هذا كله علينا ألا نهمل التعامل بما يناسب ويتناسب مع المنابر الخارجية، أولها منبر عدو يتربص بنا، أحزنه وحدتنا الوطنية، ولحمتنا الاجتماعية، بل هو العدو الأول للسنة المحمدية، التي هي منهجنا ومنتهجنا، هذا العدو يعد فرخاً من فروخ اليهود الذين لم ولن تقر أعينهم وتستقر وهناك عربي على وجه الأرض، فكيف بسعودي أسس الفكر الإنساني الحديث من خلال حوار الأديان والحضارات الباقي في ذاكرة التاريخ ما بقي الدهر. في الختام منبر الخطاب الوطني إن لم يعلُ جميع المنابر ويراقب وينتقي الأصلح فإنه سيبقى مرتعاً إما لمتفرج، وإما لنشاز، وإما لمقبل رأس، ومشمشم كتف، وخانع نحو كف، باحث عن مصلحته الخاصة على حساب مصلحة الوطن وأهله، وإما لمبدع في همز ولمز كل وطني وفي. والله من وراء القصد.. * المديرية العامة للجوازات