(1) هذه هي الزيارة الأولى لي إلى البرازيل. دُعيت من قبل مرتين لكن لم يتسن لي الذهاب، هذه المرة لم أذهب "مدعواً" بل "داعياً" إلى دعم الملف السعودي المقدّم أمام أنظار مؤتمر لجنة التراث العالمي باليونسكو، لتسجيل "الدرعية" في لائحة التراث العالمي. د. زياد بن عبدالله الدريس* (2) في اليوم الأول من وصول الوفود الى العاصمة برازيليا، لم يتحدث المشاركون عن جدول أعمال المؤتمر أو عن وضعية المواقع الجديدة المقترحة للتسجيل، أو حتى عن الملفات المعقدة كملف الحفاظ على التراث العالمي لمدينة القدس، أو عن المواقع الآثارية الفلسطينية التي تريد إسرائيل تسجيلها في لائحة التراث الإسرائيلية ! في اليوم الأول لم يتحدث الناس عن كل هذا، بل كان حديثهم فقط وأسئلتهم عن عدد الساعات التي أمضاها كل وفد في رحلة الطائرة وعن خط السير المتنوع بين الوفود للوصول إلى برازيليا؟! سفراء اليونسكو جاءوا من باريس وهم يتذمرون من 17 ساعة أمضوها بين طيران وترانزيت حتى وصلوا العاصمة البرازيلية. لكنهم توقفوا عن التذمر والتشكي حين علموا بحالة الذين أمضوا قرابة 30 ساعة طيران وترانزيت لحين الوصول. دائماً .. احذر من تعظيم مصيبتك حتى تطّلع على مصائب الآخرين ! (3) البرازيل ليست دولة هامشية لكنها دولة قصيّة، بعيدة المسافة وكبيرة المساحة، خامس أكبر مساحة دولة في العالم. بُعد المسافة وكبر المساحة ربما أورث لاعبي البرازيل القدرة على استثمار وتغطية مساحة الملعب والقدرة أيضاً على تسديد الكرات المتقنة من مسافات بعيدة على مرمى الخصم ! تحتل البرازيل نصف مساحة قارة أمريكا الجنوبية، ويقطنها 200مليون نسمة. ليس هذا هو العجيب! العجيب هو الانصهار المذهل بين هذه الملايين من السكان بأعراقها وألوانها المتنوعة، سكان من أصول أوروبية وسكان من أصول افريقية انصهروا مع السكان الأصليين في بوتقة برازيلية واحدة، يجمعهم "هدف" برازيلي واحد ! سألت صديقي السفير البرازيلي لدى اليونسكو عن سر هذه الخلطة المتجانسة، فأجابني بكلمة واحدة: التسامح. بالمناسبة، يعيش في البرازيل 12 مليون عربي - برازيلي، أصيبوا أيضاً، كما يبدو، بعدوى التسامح ! (4) بدأت جلسات المؤتمر ببرود كالمعهود. لكنها يوماً بعد آخر بدأت تسخن، وفي لحظة من اللحظات كادت تشتعل بين كمبوديا وتايلاند بسبب معبد بوذي أثري متنازع عليه على الحدود بين البلدين. سخونة الملف بلغت حداً جعل نائب رئيس الوزراء الكمبودي هو الذي يأتي بنفسه ليرأس وفد بلاده، ويتحرك بين الوفود المشاركة لحشد التأييد والتصويت لبلاده، في مقابل تحرك وزير الثقافة التايلندي لحشد التأييد المضاد. هذا الاختناق الآسيوي أخذ حيزاً كبيراً من توتر القاعة، لكنه لم يشغلها تماماً عن الالتفات إلى التوتر "المزمن" فيما يخص الشرق الأوسط. فهذه الأجندة المأزومة دوماً تضم هنا بندين اثنين، عسيري الهضم، أحدهما مشروع قرار تقدمت به الدول العربية لحماية مدينة القدس من الانتهاكات الإسرائيلية والعبث بالآثار والتراث المقدسي. والآخر، طلب تقدمت به إسرائيل لتسجيل موقع جديد باسم إسرائيل، وهو عربي وعلى أرض عربية، في لائحة التراث العالمي. خارج قاعة الاجتماعات الكبرى، كانت القاعات الصغيرة تكتظ بالاجتماعات الثنائية والثلاثية والرباعية ... إلخ، وتتنوع بين العربية والأوروبية والأفريقية والآسيوية، في يوم يتشكل اللوبي المطلوب من أجل القرار، ثم فجأة في اليوم الذي يليه يتفكك اللوبي متشظياً الى لوبيات أخرى، وهكذا تستمر لعبة "لوبيا اللوبيات" حتى وقت اتخاذ القرار ! (5) جئنا، الوفد السعودي، من أجل حشد التأييد والنجاح بتسجيل موقع (حي الطريف بالدرعية) في لائحة التراث العالمي. لكننا لسنا غير معنيين أو غير مهتمين بالملفات الأخرى في أجندة المؤتمر وخصوصاً المتعلقة منها بالتراث الفلسطيني - المقدسي. ولطالما تساءلت هناك: كيف سيمكننا أن نخوض معركتنا الصغيرة الوديعة، من بين هذه المعارك الطاحنة؟ وكنت كلما اجتمعتْ المجموعة العربية لحشد التأييد من الدول الصديقة لملفات القدس.. ثم أنوي أن أرفع يدي لأقول: القدس والدرعية لو سمحتم، خشيت أن يكون حالي مثل ماري انطوانيت التي تستمع إلى صيحات الخبز ثم تهمس لهم بحديث الكعك ! في اليوم الثاني استطعت أن أسيطر على صراع عواطفي الوطنية أمام عواطفي القومية والاسلامية. لم أتخلّ عن "الدرعية" أبداً، لكني بدأت أحسن اختيار التوقيت المناسب للحديث عنها بهدوء، وسط ضجيج الملفات الأخرى الساخنة، تخليت فقط عن الوقوع في فخ الخطاب "الكعكوي" ! (6) هذه الفقرة " للكبار" فقط ! في معظم بلاد العالم الآن يوجد سفارة سعودية، لكن في البرازيل يوجد سفارة سعودية تخدم السعوديين .. كل السعوديين، وليس فقط النخبة من الأعيان من ذوي المناصب العالية أو الكُتاب من ذوي الألسن العالية ! قبل أن أقع في فخ المديح المجاني سألت أناساً من خارج إطار السفارة، هل هذا هو ديدن السفارة مع كل وفد سعودي، فقيل لي: نعم، فالسفير د. محمد أمين كردي لم يكتف بحفل استقبال الوفد من أول يوم، بل استمر في اتصالاته وتواصله رغم اضطراره السفر خارج البرازيل في مهمة، فقد أوكل إلى نائبه خالد بن جنيد تكملة مسيرة الاهتمام والرعاية، التي لم تبدأ في مدينة برازيليا فقط، بل منذ أن وقفنا ترانزيت في ساوباولو كان وائل حبابي من منسوبي السفارة لنا "بالمرصاد" ليرعانا حتى الطائرة المغادرة إلى برازيليا، ثم في ريو دي جانيرو، عائدين، قام فهد العيسى من السفارة بنفس المهمة التحنانية. أما مكوثنا في برازيليا فقد كان، طوال أيام المؤتمر، محفوفاً ومحاطاً بالتحنان والاهتمام من الشابين النبيلين وليد النمري ومعاذ الخضير. هل هذا مديح للسفارة مبالغ فيه أو استثنائي؟ .. ربما ! لكن لماذا لا ينظر للاحتمال الآخر بأن الرعاية والاهتمام هو الاستثنائي؟! ونسمي الاهتمام هنا بأنه استثنائي لأننا لم نجرب أصلاً الاهتمام الاعتيادي من قبل، فكيف سندرك أن هذا الاهتمام اعتيادي وغير مبالغ فيه ؟! شكراً للسفير والسفارة و "الأسفار". وعودة الآن إلى قاعة الاجتماعات... (7) الآن .. ستبدأ جلسة مناقشة وتقييم الموقع السعودي. جاءني أحد ممثلي الدول الأعضاء ليخبرني أن ممثل اسرائيل يجول في القاعة لحشد عدم التأييد للموقع السعودي، انتقاماً من موقف السعودية الصريح غير "المتقلب" من دعم ملف الحفاظ على القدس من العبث والتخريب الاسرائيلي. كانت هذه شهادة استحقاق، كسبناها قبل أن نكسب الفوز بتسجيل الدرعية. الدرعية، كانت هي الموقع العربي الوحيد المعروض للتسجيل في هذه الدورة لعام 2010م، ولذا لم يكن التحرك سعودياً بل كان، للحق، عربياً متكاملاً متضامناً منذ البدء، ثم زاده احتشاداً الموقف الاسرائيلي "المشكور" ! توازعنا الأدوار، نحن الوفد السعودي، فتولى الزميل الخبير الآثاري د. علي الغبان الردود الفنية، وتولى الخبير الأحسائي البشوش د. علي المغنم تسجيل وتوثيق كل شاردة وواردة من التعليقات، في حين اهتم المهندسان الأنيقان عبدالله الركبان وعبدالملك الصالح بمهمة تعريف المشاركين بالموقع وسبل تطويره مع الحفاظ عليه من لدن هيئة تطوير مدينة الرياض في آن، أما المستشار القانوني الوديع سلطان الجبرين فقد أسهم مع زميليه الأولين، من هيئة السياحة والآثار، في تحضير التعقيبات والتوضيحات الفنية اللازمة للنقاش. أما أنا فتوليت كتابة هذا المقال !! لا نغفل أن التحرك الدبلوماسي والعلاقات الوثيقة والمفتوحة مع الدول الأعضاء بالمنظمة كان له دور مواز ومساند للدور العلمي والفني، وهو ما تنتهجه كافة الدول الأعضاء في حشد الدعم والتأييد الدبلوماسي والفني سويا لمواقعها المقدمة للتسجيل في اللائحة العالمية. من بين التوضيحات التي كان لابد لي من وضعها أمام بعض السفراء أو الخبراء هو آلية اختيار المواقع السعودية الثلاثة المرشحة للائحة التراث العالمي. فموقع مدائن صالح (الذي سجل عام 2008م) يمثل حقبة ما قبل الإسلام، وموقع جدة التاريخية (الذي أرجىء لعدم جاهزيته إلى العام القادم 2011م)يمثل الحقبة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة، وموقع الدرعية (المقدم هذا العام 2010م) يمثل الحقبة السعودية الحديثة. أي أن المواقع الثلاثة لم يتم انتخابها عبثاً، بل لإبراز وتمثيل الحقب والحضارات والثقافات المتنوعة التي مرت بالجزيرة العربية طوال تاريخها وتحولاتها. أما بخصوص الدرعية التي نعرضها الآن، فهي لا تكتسب جدارتها فقط من أهميتها التاريخية والثقافية، بل وأيضاً من منظور طرازها المعماري (الطيني) الذي أصبح العالم الآن يعطيه اهتماماً كبيراً، في نماذجه المنتشرة في المنطقة العربية وأفريقيا وأمريكا الجنوبية بوصفه نموذجاً معمارياً صديقاً للبيئة .. منها وفيها. بعد نقاش طويل ومتشعب استمر مدة ساعة ونصف، بين أخذ ورد ومدح وذم وتأييد واعتراض، الحق أن الذين اعترضوا ثلاث دول فقط والبقية أيدوا، فقد (قررت لجنة التراث العالمي في دورتها ال34 المنعقدة بالبرازيل، الموافقة على إدراج حي الطريف بالدرعية في لائحة التراث العالمي). نهنىء أهالي الدرعية ودارسيها ومحبيها، ونخص بالتهنئة الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز الذي كان يتابع مجريات التسجيل ويحشد له الاهتمام خطوة خطوة، والأمير فيصل بن عبدالله بن محمد وزير التربية والتعليم الذي يتابع باهتمام دائم العلاقات بين المملكة واليونسكو ، والأمير أحمد بن عبدالله بن عبدالرحمن محافظ الدرعية المحافظ عليها، والتهنئة الكبرى تتوجه إلى الأب الحاني للدرعية وسواها الأمير سلمان بن عبدالعزيز. متطلعين إلى الاحتفال الآتي، في العام القادم بإذن الله، بتسجيل جدة التاريخية، الجديرة بذلك أيضاً. (8) في نهاية الجلسة المسائية لأحد أيام المؤتمر سمعنا أهازيج فلكلورية قرب مخرج القاعة. قال لي أحد الزملاء: كأنه صوت فرقة الدرعية! وبالفعل كانت الفرقة البرازيلية تحمل دفوفاً كأنها للتو حميت على النار، لكن الفلكلور لم يكن "سامري" كما توقعنا أو اشتقنا بالأصح، كانت فرقة برازيلية تقدم عروضاً من "السامبا" تحمل في إيقاعها نكهة السامري، وهو تماثل ملفت يحتاج بالفعل إلى تحليل للجذور الإيقاعية. استمعنا إلى "سامبري" .. خليط من سامبا بنكهة سامري، كان هذا مؤشر تفاؤل لنا بأن خليط الدرعية والبرازيل سينجح في المرور والقبول أمام مؤتمر التراث العالمي ، وتحقق التفاؤل. * سفير المملكة لدى منظمة اليونسكو