التاريخ لا تمتلكه النخبة، وبالتالي لا يفترض أن ينكتب من وجهة نظرهم فقط. بمعنى أن للبسطاء من الناس نصيب في تشكيل الصورة الاجتماعية بمعانيها السياسية والثقافية. وهذا هو المكمن الجمالي الذي يدفع عبدالرحمن منيف الروائيين ناحيته، لإرساء مجتمع ديمقراطي، تكون فيه الرواية إحدى آليات التصعيد بذلك الإتجاه، فيما سجّله من (ملاحظات حول الرواية العربية والحداثة). حيث يفترض بصفته أحد الآباء الروحيين للرواية السياسية في العالم العربي (أن يكون الروائي المعاصر جزءاً من حركة تاريخه ومجتمعه، وهذا لا يتم إلا من خلال الاتصاق بالناس والاحساس بمعاناتهم ومعرفة مشاكلهم وهمومهم). وليس من الضروري أن يبالغ الروائي في التماس المباشر مع قضية سياسية، ليحقق معادلة الإنتماء الفعلي إلى الحركة التاريخية الاجتماعية، بقدر ما يفترض أن يقترب من القضايا الإنسانية، التي تعادل المعنى اليومي أو اللامباشر للممارسة السياسية، لتقوم روايته مقام الضمير. وربما، لهذا السبب بالتحديد، اعتبر واسيني الأعرج رواية (ترمي بشرر) الفائزة بجائزة البوكر، بأنها رواية سياسية بامتياز، وذلك في مقال نشره في جريدة الخبر الجزائرية، إثر فوز عبده خال بالجائزة بعنوان (البوكر العربية عودة الروح السياسية) رغم خلو الرواية من مفردات المعجم السياسي المتعارف عليه، وانتفاء وجود الشخصيات المناضلة، بمعنى أن سياقاتها لم تتقاطع مع ما يعرف بالبناء العلوي للسياسة كما يتمثل في الأحزاب والحركات النقابية، بقدر ما تضمنت روح الجدل السياسي، وملامح التجابه الضمني بين مختلف الطبقات الاجتماعية. وبهذا المعنى يمكن أن تكون كل محاولة روائية هي صيغة من صيغ الممارسة السياسية، إذ لا تخلو رواية من صراع يحيل إلى مظهر من مظاهر السياسي، على اعتبار أن الإنسان ثوري بطبيعته بالنظر إلى أنه يحب الحياة، ويتفانى في الذوذ عن معناها الذي يعادل وجوده. وبهذا المعنى أيضاً يبدو البحث عن دليل ارتباط الرواية بالسياسة ضرباً من العبث التأويلى، فهي منزرعة بعمق في كل الفنون، وهو اتجاه يمكن ملاحظته فيما شهدته الرواية في السعودية، في مرحلة ما بعد الألفين الميلادية من استحضار لافت للموضوعات والشخصيات السياسية بذرائع فنية وموضوعية مختلفة، كاستجابة طبيعية لموجة الحركات الإصلاحية والحقوقية، المتأتية أصلاً من طوفان العولمة، لدرجة أن أغلب الروائيين بالغوا في تطعيم رواياتهم بلقطات سياسية لتعزيمها بمضامين جاذبة، وإضفاء طابع الإثارة فقط، وليس من منطلق توظيف فني للأحداث السياسية أو شخوصها، أو هذا ما ينم عنه البناء الفني لمعظم الروايات.أما الرواية السياسية بوصفها نوعاً، فلا يمكن الإقرار بوجودها في المشهد، ما لم تمتلك القدرة على الإقناع، بكل دلالاته المنطقية والفعلية، بمعنى أن تتعادل مقومات الخبرة الفنية مع شمولية ومعاني التجربة الواقعية، وهو ما يعني أن كل تلك الإشارات الرمزية الذاهبة باتجاه تسييس الصراع داخل الرواية في السعودية، لا تعفي المشهد من إنجاز رواية ذات ثيمة سياسية واضحة المعالم، لتستحق التجنيس بمعناه الأدبي. إذ يفترض أن تقوم على (التسمية) أي التصريح بالحوادث والأسماء والوقائع التاريخية، وتشكيل لوحة عريضة، راصدة بالضرورة لحركة الجماهير إلى جانب حياة الزعامات الوطنية، الأمر الذي يحتّم أن تكون قادرة على الاضطلاع بمهمة تصوير مختلف النشاطات السياسية، وإبداء الرأي حول هاجس الحرية بمعناه الإنساني الأشمل.الرواية السياسية قد لا تحتاج إلى تشكيل الملامح الطبوغرافية لفضاء السجن، أو كشف الدلالة المكانية لجحيم الزنزانة، أو حتى الإتكاء على قاموس السجالات السياسية اليومية. ولكن يصعب بالمقابل تصور وجود رواية سياسية بدون أن يكون عصبها مشدوداً إلى جاذبية شخصية المناضل السياسي، الذي يشكل قيمة مهيمنة بالمعنى النقدي، إذ يُفترض أن تختزن شخصيته دلالات كبرى تتقاطع عندها كافة العناصر الشكلية، وتنتظم الأحداث بموجب فاعليتها، كما تعطي النص الروائي بعده الحكائي، بمعنى أن النص يقوم على سطوة حضورها ونموها، وبالتالي يكون القارئ تحت تأثيرها. ومن خلالها يمكن اكتشاف آراء ومواقف الروائي، على اعتبار أن شخصية المناضل السياسي لا تنفصل عن الوعي الذي أنتجها، وبالتالي يمكن التعاطي معها كأحد أهم المداخل الحيوية للاقتراب من واقع وطموحات ومعوقات الرواية السياسية في السعودية. المناضل السياسي ليس مجرد شخصية عابرة في النص الروائي، بل هو جوهر العمل الذي يتموضع في صميمه، بما يشكله من امتداد طبيعي لجاذبية الشخصية وسلطتها المعنوية التي تفرضها على الشخصيات. وهو إما أن يُستمد من الواقع أو يتم اختلاقه. أو ربما يعاد تركيبه وفق مزيج فني من الواقعي والمتخيل، أو من المعاش والمحلوم به. وهو خيار يطرح إشكالية مرجعيات الروائي، ووعيه الذاتي بنموذجه المراد توطينه في النص، بمعنى أن الأحداث التي يعبرها بطل الرواية قد تتقاطع مع سيرة الروائي، فتكون (سيرة ذاتية) ولو مموهة. أو قد تفارق حكايته لاعتبارات زمانية ومكانية ومضمونية فتكون بالتالي (سيرة غيرية) قابلة للتعديل والإضافة والتأويل، ووفق تلك الاعتبارات تتحدّد طبيعة وظيفته ومكانته داخل السرد. هنا تكمن مفارقة على درجة من الأهمية فأغلب الروايات المعنية بالحدث السياسي في السعودية، تلهج بمفردات الحرية، والسجن، والوطن، والحزب، والتنظيم، والثورة...إلى آخر منظومة القاموس النضالي لكنها تكتفي بالعناوين البراقة، ولا تتجرأ، أو ربما لا تقدر على تفكيكها داخل النص، إذ لا تستدعي حالات نضالية بمسميات ومعالم واضحة، إلا بقصد التبرؤ منها، بل انها في الغالب تتحدث عن نموذج نضالي من الزمن المنقضي، يتم اعتباره مجرد دليل متهافت لسيرة جيل خائب، حسب منطوق أبطال أغلب الروايات، حيث يتسيّد الماضي هذا النمط من الكتابة الروائية، ويرتهن النص لنزعة رثائية نكوصية، يُستجلب بموجبها نموذج المناضل المنهزم من ذلك الزمن بطريقة توحي بانتفاء الفعل النضالي واستنفاد ممكناته المستقبلية، أي تجسيد مظاهر البطولات المنهزمة والمنكسرة. وهنا تتولّد خطيئة كتابية أخرى لا تقل أهمية عن المفارقة السابقة، فالإفراط في الحديث عن الأمس بلغة ووعي اليوم، بالإضافة إلى ما يعنيه من مساءلة التجربة المنقضية، ووجود مشروع مبييت للانقلاب على الماضي بمعطيات الحاضر، يعني أيضاً أن المناضل السياسي اليوم إما أنه لا وجود له ولا جاذبية ولا سطوة، أو أن الروائي غير قادر على التقاط النماذج الفاعلة وتأوينها في السرودات، حيث يُلاحظ انتفاء البطل المحايث للحظة في مجمل الروايات. كما يُلاحظ أيضاً، أن نموذج المناضلة السياسية لا محل لها في وعي الروائيين والروائيات. بل إن الروائيات في السعودية لم يقاربن الرواية السياسية، إلا من خلال تضمين رواياتهن بإشارات عابرة لا تنم عن وعي أو انهمام بالشأن السياسي، ولا تشير إلى رغبة حقيقية لتخفيف ذكورية التجربة النضالية.حتى المظاهرة الشهيرة المطالبة بقيادة النساء للسيارات في السادس من نوفمبر 1990م، التي أرادت من خلالها مجموعة من النساء إبداء بعض التحدي بتظاهرة عبر طريق الملك عبدالعزيز بالرياض، والتي تعتبر هي الأخرى انعطافة نضالية على درجة من الإثارة والتقديس في الوجدان الوطني، لم تُستثمر كما ينبغي لتجسيد شخصية نضالية نسائية تليق بالواقعة وأهميتها التاريخية، رغم أن الحدث الذي احتل مساحة هائلة في السجالات اليومية، كان حاضراً بكثافة في سلسلة من الروايات، كمادة خبرية، أو تزيينية للسرد، إذ تم توظيفه روائياً للإخبار فقط عن الواقعة، واختبار ما تحاوله مختلف الأطراف المتصارعة من استعراض لمظاهر القوة والحضور.أما (المجاهد) المنتمي لحركات الإسلام السياسي، والذي يعادل (المناضل) بمقتضى قاموس الحركات اليسارية والقومية، فلم يتم تجسيده في الروايات الحديثة إلا كإرهابي، وبصورة مسطّحة، مع زعم واضح بأن التفاصيل المسرودة مستّلة من الوقائع، أو هي حكاية من داخل الجماعة المتطرفة، إذ لم يتم -مثلاً- تشكيل نموذج روائي مقنع من واقع احتلال جهيمان للحرم المكي الشريف بمائتين من المسلحين، في العشرين من نوفمبر سنة 1979م، وما توّلد عن ذلك الحدث المأساوي من متوالية عنفية تمثلت في تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا، وتفجيرات الثاني عشر من مايو، والثامن من نوفمبر عام 2003 في الرياض، كما يتبين هذا الإتجاه التبسيطي في مجموعة من الروايات، وكأن الروائي لا يمتلك إرادة التوغل في أعماق الواقعة ودلالاتها، أو مقابلتها على الأقل بمروية موازية، وهو تنازل محيّر، يجعل من روايته مجرد ملحق تفسيري لما تبثه الآلة الإعلامية.ومنشأ ذلك الافتراق، على الأرجح، يعود إلى كون الرواية السياسية في السعودية تضطلع اليوم بدور يقوم على تجميع التاريخ السياسي من المرويات الشفهية، وتحاول تدوين المنسّي من الشخوص والذكريات، لتفعيل تلك الحركة الاجتماعية التاريخية، وذلك الافتقار الواضح إلى المرجعيات هو ما يفسر بهوت النماذج النضالية، وبساطة المضامين، الملفوفة في تلابيت سرد على درجة من السذاجة والتبعثّر والتشوّش، وكأن الوقائع والرموز النضالية، التي كادت أن تُنسى، لا تمتلك القدرة على الظهور مرة أخرى والتأثير في الأحداث الجارية المكوّنة للإبداع الجماعي. ولا شك أن الرواية السياسية في السعودية التي لا تمتلك تاريخها السحيق كجنس أدبي، ولم تتشكل بعد تقاليدها الكتابية، تحاول أن تتغلب على الكثير من العوائق الموضوعية والفنية لتتمكن من طرح رؤية أمينة لجوانب هامة من الصراع، ولكنها غير قادرة، حتى هذه اللحظة، أن تقدم صورة مقنعة تليق بطبيعة المرحلة، أو كاشفة لتراكمات وعمق التجربة، ليس بسبب محدودية الأفق الديمقراطي المسموح لها بالتحرك فيه وحسب، وانخفاض منسوب الحرية التعبيرية والمعاشة على حد سواء، ولكن لأنها هي الأخرى تعبر صيرورة تشكّلها الخاصة، التي تتناسب بشكل طردي مع حركة الحداثة الاجتماعية، بمعنى أنها في طور الانكتاب، وبالتالي فهي لن تكون إلا منصاعة، في مرحلتها التأسيسية الآنية إلى إيقاع الحركة التاريخية، وخاضعة بالضرورة لوابل من الإرغامات الفنية والموضوعية. * مقطع من الورقة المقدمة في النادي الأدبي في جدة يوم الثلاثاء 1 يونيو 2010