** «السمح» عند إخواننا السودانية.. كلمة تحمل عدة دلالات.. حسب سياقها في الحديث.. لكنها لا تأتي بمعنى «الجمال» أو «الملاحة».. إلا في أحيان نادرة.. أو هكذا قد يفهمها «الوافد» مثلي من خارج روح «اللهجة»..لأن اللهجات بكل ما لها من خصوصية.. يحلو لي أن أطلق عليها «روح».. وهي كلمة ربما تكون فضفاضة.. لكن ليس لدي كلمة محددة.. تمكن من وضع مفهوم «اللهجة» في سياق يحدد هويتها. لأن اللهجات «قاموس» و«ناموس» لحياة متكاملة تبدأ من الطعام والروائح والعادات.. وتنتهي بالتفاصيل مهما كانت صغيرة وتصل إلى الأسرار ومفاهيم العيب وتبتعد داخل طقوس الرقص والشعر والغناء. ورغم أن أهل حارتنا يمثلون تجمعاً شبه حضري من مختلف مناطق المملكة.. لعوائل الرجال الذين اجتذبتهم حياة «العسكرية» في الجيش والشرطة.. إلا أنهم شكلوا تجمعاً متجانساً تداخلت فيه اللهجات وتقاليد الأفراح ونكهات الأطعمة وأنواعها.. ففي تجمعات الرجال والنساء يدور الحديث فيأخذ البعض «مفردات» من لهجة آخر ويدمجها في حديثه.. ويتحدث آخر بلهجته التقليدي فلا تجد سامعاً يستنكر أو لا يفهم دلالة المفردة مهما بدت خاصة وغريبة.. وذلك بحكم التآلف والمحبة التي عمرت بيئة تلك البيوت المتلاصقة الجدران والفقر والهموم.. والغريب أن مجتمع «النساء» تشكل فيه قاموس وناموس ودلالات خاصة لا تدري كيف تبلورت في أحاديثهن. هنا نأتي ل«السمح» بمعنى الجميل. فبقدرة قادر.. أتفق جميع نساء وبنات الحارة على استخدام كلمة «المليح».. ليس لوصف أي نوع من الجمال.. لكن للسخرية من الرجال والأبناء لا أكثر ولا أقل.. والجميع يفهم دلالتها.. ويبتسم عندما تنطقها احداهن.. وهن ينطقنها.. لابد بطريقة تبحث على الابتسام. كأن تسمع إحداهن تتحدث عن زوجها قائلة: - شوية وجاء المليح.. وقال يالله سرينا..!! سرى الله على ابليسك على فين يا مليح..!! قال المليح.. نعيد عيد الفطر في الديرة..! يا سكنى خللي أهل الديرة وودينا مكة..؟! لكن المليح راسه وألف سيف ما يعيد إلا في ديرة السكون..؟! أو تسمع أم تصرخ بأبنها: - على فين يا مليح انته والمليح اللي معاك - تقصدني حتماً - وقبل أن يرد عليها تقول محذرة وهي تشير إلى والده بقولها: - هيا لا تتأخر.. بعد شوية يجي المليح ويسأل عنك..؟! أو تجد إحداهن تهب وهي تشير لابنتها بالنهوض لاقتراب موعد عودة الأب إلى البيت بقولها: - هيا قومي.. لا يجي المليح واحنا برى البيت..!! لكن «المليح» حسب دلالتها هذه تكون ذات حس ساخر ودود أو حميم.. أو غير عدائي على الاطلاق.. غير أنها قد تأتي في سياق عدائي.. ومحملة بسخرية لاذعة.. إذا ما كانت ستطلق على ذاك النوع من الرجال أو الشبان أصحاب المظاهر والنفخة الكذابة. فتسمع الفتيات الصغيرات اللواتي يلعبن أمام أبواب البيوت.. يجارين أمهاتهم في طريقة حديثهن.. فما أن يرين أحد هؤلاء مقبلاً.. حتى تبادرإحداهن للقول: - جاكم المليح..!! وينصرفن لمتابعته وهو يسير منتفخاً.. على غير هدى وهن يتضاحكن وقد تقول إحداهن بخبث: - ترى المليح جاي من الخرابة. و«الخرابة» بيت مهجور لا وجود له في حارتنا.. وإن كنا نسمع حكايات من الكبار عن «الخرابة» وعادة ما تكون حكايات عن «الجن والسكون» الذين يرتعون فيها.. فهي مخيفة لأنها - لابد أن تكون - مظلمة في الليل وفي عز القايلة.. ولا أحد يدري كيف أو لماذا. والغريب أن كلمة «المليح» لم تلتصق ك«لقب» أو نعت أو «نقبه» تطلق على أحد بعينه أسوة بكثير من الألقاب أو «النقبه» التي اطلقها أهل حارتنا على بعض أهل الحارة والتصقت بهم إلى حد جعلنا نكاد ننسى الأسماء الحقيقية لأصحاب تلك «النقب».. التي اطلقت لأول مرة كنوع من السخرية ثم لبست من أطلقت عليهم.. بسبب غضبهم من تلك «النقب» الأمر الذي جعل الأشقياء يركزون عليها.. قبل أن تصبح أمراً واقعياً يردده الجميع ولم يعد يغضب حاملوها. وفي وسط «المعمعة» وحين تكون أحاديث النساء «حامية الوطيس».. لابد أن تسمع صوت أحدهم ينادي من الخارج: - يا عرب.. يا أهل البيت.. يا أم «فلان» ولابد أن تتعرف زوجته على صوته.. فتقول: - جا المليح..