ذاعت في الآونة الأخيرة بعض الفتاوى التي هجمت على الناس، ودعتهم إلى الاستغراب والدهشة، وأخذت بهم مآخذ شتى، أفضت بكثير ممن لاحظ له في العلم أن يدلي بدلوه، ويأخذ ذات اليمين وذات الشمال، وينسف الآراء، ويسفه قائليها دون استناد إلى نص صحيح أو قياس معتبر في هذا الشأن . والحق في هذا المسلك ورد الفعل من قبل عامة الناس على هذه الفتاوى التي شطحت بأصحابها، إن لم نقل قتلتهم مسلك لا يستغرب منهم، وهو يأتي وفق ضرورة طبيعة لا ينكرها عاقل، وبالتالي هذا موقف لن أتناوله في هذا المقالة الموجزة، وأدعه إلى مقالة أخرى . وإنما يأتي حديثي هذا مقصوراً على صاحب الفتيا نفسه؛ لنحاكمه لا إلى رأيه الذي تبناه وأخذ به، وحشد النصوص والآراء لدعمه وتثبيت فتواه، وإنما هي الآلية التي تم على ضوئها صناعة هذه الفتوى. وغير خاف على مطالع مقالتنا هذه أن السبب في هذه الفتيا هو ما صدر عن فضيلة الشيخ عبد المحسن العبيكان من جواز إرضاع الكبير بضوابطه التي وضعها مستناً بعلماء أجلاء لا ينكر فضلهم ولا يغمز في دينهم، وهي مسألة أيضاً لن أتناولها نقداً من جهة ما ذهب إليه الشيخ، وإنما كما أسلفت سيكون عمدة مقالتي في هذا الأمر الخلل المنهجي الذي اتبعه الشيخ الفاضل في فتواه والتي أخذت جانباً كبيراً من الناس، بل جعلها بعضهم عفا الله مجالاً للسخرية . فما هو الخلل الذي أودى بالشيخ، وشط به هذا الشطط؟. يتلخص فيما يأتي : 1- عدم مراعاة الشاذ من الآراء، يفضي بالمفتى إلى الأخذ ببعض الآراء الشاذة التي ما ألفها الناس ينتهي ببعضهم إلى اتخاذ مواقف لا تمت للعلم بسبب، فيفضي بطائفة منهم إلى السخرية أو الخوض في علماء لهم مكانتهم ومنزلتهم غير المنكورة، وهو ما جاءت به الآثار المحذرة منه، ذلك أنه سبب للفتنة ولا حول ولا قوة إلا بالله . ويحضرني في هذا أثران صحيحان اخرجهما مسلم في مقدمة صحيحه، الأول : قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة . والآخر : ما قاله سفيان بن حسين : سألني إياس بن معاوية، فقال : إني أراك قد كَلِفْتَ بعلم القرآن، فاقرأ علي سورة وفسر حتى أنظر فيما علمت، قال : ففعلت، فقال لي : احفظ علي ما أقول لك : إياك والشناعة في الحديث، فإنه قلما حملها أحد إلا ذَلَّ في نفسه، وكُذِّب في حديثه . إن تعمد الأخذ بالأحاديث الشاذة الخارجة عن الأصول المقررة في مجمل التشريع، والمضادة لاختيارات جماهير علماء الأمصار في جميع الأعصار خصلة ذميمة، قد تندرج ضمن حب الشهور وطلب الظهور، وهذه قاصمة الدهر . 2- قد يؤدي الأخذ بالرأي الشاذ إلى حدوث انشقاق في المجتمع واقعياً وفكرياً إذا اتخذ الطابع العام في نشره والدعوة إليه، وقد يكون مقبولاً لو بقي في الإطار الفردي الذي ينفرد به قائله، وله فيه مندوحة وسعة . 3- يفضي الأخذ بالرأي الشاذ إلى تعدي المؤسسة الدينية المنوط بها وحدها الاختصاص بالفتيا للناس، وحل مشاكلهم في ضوء أحكام التشريع الإسلامي، وفي عدم الأخذ بهذا الأمر في الاعتبار سقوط لهيبة المؤسسة، أو على الأقل زعزعتها في نفوس العامة، وعليه فيتوجب على مؤسسة الإفتاء الأخذ بزمام المبادرة في الرد على الفتاوى الشاذة، وتفنيد آراء منتحليها، وفي هذا رعاية لمصلحة كبرى لا يمكن التهاون بها فضلاً عن إغفالها . هذه بعض جوانب الأخذ بالآراء الشاذة وسلبياتها، ولا يعني ما سبق احتكار آراء طلبة العلم، ومن رأى في نفسه امتلاك أدوات الاجتهاد-وما أعسرها في الأزمنة المتأخرة- أن يقول بما أداه إليه بحثه واجتهاده، وإنما الذم لاحق لمن تهافت على ما شذ من الآراء، وجعلها سمته ودينه، وبها عرف، وإليها نُسب، والله الهادي إلى سواء السبيل .