في "جمر النكايات" يبدو عدنان فرزات كمن يهيء ارض الحكاية لبذرة روائية كبيرة، فيحرثها ويزيل الشوائب العالقة قبل ان يمارس فعل الزراعة بكل مراحله المتلاحقة الضرورية ثم يجلس منتظرا أن تؤتي أكلها.. ولو بعد حين. عندما حدثني الصديق والزميل الأبدي عدنان فرزات عن قرب صدور روايته الأولى توجست خيفة، لكنني نجحت في إخفاء توجسي عنه حماية لحماسته التي غلفت صوته عبر سماعة الهاتف وانتظار للآتي الروائي القريب. لم تمض أيام حتى تسلمت نسختي من "جمر النكايات" لتبدأ الحكاية، حكاية الرواية والقراءة والرأي المستخلص. استمرأت القراءة حتى النهاية في جلسة واحدة كانت كافية ليذهب التوجس ويحل محله التساؤل: من اين لك هذا يا عدنان؟ رواية صغيرة الحجم نسبيا، ولكن فرزات يجيد فيها لعبة الكلمات جيدا، فيختار منها ما يناسب الفكرة وفقا لنظرية الاقتصاد اللغوي. لا يطيل ولا يسترسل، لكنه ينساق وراء بهجة الفكرة ليحيلها الى صورة وينساق وراء ألوان الصورة، وهو الفنان التشكيلي العالم بأسرارها ليحيلها الى حدث، وينساق وراء الحدث ليحيله الى حكاية وتبقى تفاصيل تلك الحكاية تراوح بين الأسئلة والاجوبة بحثا عن يقين لا يجده حتى المشهد الاخير حيث الموت الذي يودي بحياة امرأة كانت بطلة الحكاية وسرها المكنون. "جمر النكايات" رواية تتمحور في حكاية تقليدية في اطارها العام، لكنها تتجاوز حدود القص البسيط لترسم حدود مدينة نهرية ملتبسة التاريخ والجغرافيا في الوقت نفسه. وفي تلك المدينة الوادعة يسكن بشر خضعوا لذلك الالتباس وصاروا يمارسون حياتهم تحت ظلاله التي لا تزول في الليل بل يتكثف سوادها فتنصبغ الارواح بقتامة لا اسباب منطقية لها حتى وان حاول الراوي تفسيرها لنفسه أولا قبل ان يروج نتيجة محاولاته بين القراء. في تلك الرواية الموجزة يحكي فرزات، بنفس هادىء وتشكيل بصري، قصة مدينة وقصة امرأة وفي نقاط كثيرة تتوحد القصتان وتتداخلان فيبدو الآخرون في ادوار ثانوية رسمهم الراوي، وهو بطل بقلمه كمؤلف للرواية أيضا، باعتبارهم مجرد كائنات تكمل المشهد دون ان تكون لها القدرة على التدخل في رسم الاقدار النهائية. هنا امرأة تتحدى مصيرها الموشوم على شوارع المدينة وجدران بيوتها العتيقة بلافتة مصنوعة من قماش كيس طحين مكتوب عليها انها "مرشحتكم للانتخابات". لكنها تفوز بالموت أخيرا في اشارة مفتوحة الدلالات على موت الحلم الذي رسمته المدينة كلها وفقا لخطى امرأة رفضت أن تشرب من نهر الجنون حتى وان إنكوت بل احترقت بجمر النكايات!.