ذلك القلق الذي ينتابنا من قضايا كثيرة، تأتي وكأنها مفاجأة كونية، وهي من المتوقع، وتأخذ مساحة من الدهشة وهي تحمل مخاطرها، التي يدركها كثيرون ويحذرنا منها كثيرون.. ولكن لا تبدأ مساحات الدهشة والقلق والاحتجاجات إلا بعد أن نرى مدننا وهي تغرق في شبر ماء. هناك أعاصير من نوع آخر تعود لتحولات اجتماعية واقتصادية وتحديات مستمرة هي سمة الحياة وجزء من ظواهرها، تعلن عن نفسها في البدء بشكل محدود وضيق، إلا أنها بطبيعتها التراكمية قد تتحول إلى طوفان. الأعاصير والأمطار المصاحبة لها ظواهر طبيعية تمر على كل بلاد الدنيا وتخلف آثارها، ويختلف حجم هذه الآثار، باختلاف قدرات المجتمعات على حماية نفسها أو تقليل حجم الفاقد أو مواجهة أعباء هذه الظواهر. إلا أن هناك أعاصير من نوع آخر تعود لتحولات اجتماعية واقتصادية وتحديات مستمرة هي سمة الحياة وجزء من ظواهرها، تعلن عن نفسها في البدء بشكل محدود وضيق، إلا أنها بطبيعتها التراكمية قد تتحول إلى طوفان. فإما أن تستقرئ الدولة والمجتمع مسار وتحولات ونتائج تلك الظواهر في وقت مبكر للتخفيف من آثارها إذا لم يكن إزالتها بالكلية، أو تهوّن من أمرها ولا تراها سوى حالة عابرة، لتفاجأ بأن قطرات المطر تحولت إلى سيول جارفة لم يعد ينفع معها معالجات كان يمكن أن تؤتي ثمارها في وقت كانت الظاهرة تعلن عن نفسها، ولم تبلغ حدا يجعل أي معالجة مكلفة جدا أو نجاحها محدودا أو غير متحقق. تراكم الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، وظهور مؤشرات على مشكلات وقضايا تعلن عن نفسها بشكل أو بآخر، وهي تأكل في رصيد الإنسان والمجتمع وتقرض في مكتسباته وتمثل أعباء تتراكم في حياته، مؤشرٌ على خلل في مشروع تنموي قد لا يحقق أهدافه كما رُسمت له، أو خلل في بنية أداء لم يكن في مستوى تحسس هذه الضغوط واكتشاف مساراتها وتحولاتها وتعبيراتها. التحولات داخل بنية المجتمع تبدأ بطيئة إلا أنها تعبر عن ذاتها كظاهرة في قضايا قد تصبح حديث الساعة، وكأنها المفاجأة الكبرى. تجاهلها وهي ذات طبيعة تراكمية قد يؤدي إلى ما هو أكثر من إعصار اجتماعي. أزمات وضغوط تتراكم حتى تصبح أكثر شبها بالبركان الخامد لكنه فجأة يبدأ في إرسال حممه ومقذوفاته نحو السفح وربما طمر المدينة فأودى بملامح خريطتها الاجتماعية المتوارية خلف أسوارها العالية. قضية التعامل مع احتياجات المدن لا تختلف عن قضية التعامل مع احتياجات البشر. الإنسان والمدينة عنوان لا ينفصم. الإنسان هو الذي يعطي للمدينة طابعها وعنوانها وملامحها، وبقدرته على تجاوز إخفاقاته سيكون أيضا عنوانا لمدينة لا يمكن أن تخفق وهي تلاحق الانجاز تلو الانجاز. وبمستوى قدرة الإنسان على مواجهة التحديات تأخذ المدن طابعها في قدرتها على الصمود في مواجهة الأعاصير. كما أن المدن تعطي للإنسان بعض هويته وتساهم في تكوين قدراته، فمدن الجبال غير مدن السواحل، ومدن الصحاري غير مدن الأنهار. المدن الجبلية فيها مشقة الصعود، تطبع إنسانها حتى يصبح الإنسان الذي يبني مدن الجبال مقدودا من ذات الجبال صبرا وجلادة وصمودا وتحديا. أما ابن الصحراء فلونته الصحراء بسحنتها، ولكنه لم يعش وهماً أن الصحراء على ضفاف نهر جار، إلا بعد أن استرخى عقودا قليلة يرفل بنعمة البترول، حتى فقد خشونة الصحراء وانتعش بوهم الخوارق في مدن الصحراء، ليجد نفسه يغرق شيئا فشيئا في أزمات يومية واختناقات تتراكم، والخشية أن تكون القدرة أضعف في التخلص من وهم التدفق السهل لنعمة الثروة التي لم تكن لتخطر على بال، لكن من الوهم الكبير تصور استمرار هطولها أو كفايتها على النحو الذي كان إذا لم يكن أيضا اضمحلالها. لنعِدْ تركيب تلك الجدلية بين المدينة والإنسان. لنحاول أن نقرأ ما هو أبعد من انفعالات عابرة يطويها النسيان حالما تلوح في الأفق الشمس المتوهجة والحارقة والتي تتبخر معها بحيرات أمطار الصيف، لكنها تبقي الأسئلة الجدلية بدون إجابات أو مبادرات أو مواكبة تستحق أن نعيد صياغة مستقبل مدينة كما يجب إعادة صياغة مستقبل إنسانها. تشكل المجتمعات مدنها بقدراتها وإمكاناتها واحتياجاتها، وتوظف مواقعها وإمكاناتها توظيفا حسنا ومفيدا ومجديا لتحقق فيها عالم الكفايات. دعونا من خدمات لا تكشف عن نقصها وسوء إدارتها إلا في حال الأزمات التي تسببها ظواهر طبيعية كالأمطار أو غيرها لنسأل ماذا عن قضايا تخلف سلبياتها الكبيرة وآثارها الكبيرة وهي تنمو ببطء وتعالج بالمسكنات والوعود والبرامج التي لا ندري كيف يمكن قياس نتائجها، أو إلى مدى وصلنا في معالجة آثارها. قبل أيام قليلة تحدث محافظ المؤسسة العامة للتدريب التقني والفني عن حاجة المملكة لأربعة ملايين فرصة عمل خلال العشر سنوات المقبلة لمواجهة خطر البطالة والتحكم بسقفها، وهو يستند على بيانات دقيقة تعبر فعلا عن احتياجات مجتمع ينمو بسرعة ويشكل الشباب فيه النسبة الأعظم.لكن ليس المطلوب فقط هو توفير هذه الوظائف بل الحاجة إلى مراجعة سلّم الأجور حيث ذكر أن متوسط دخل العامل السعودي في القطاع الخاص يبلغ 1882 ريالا شهريا بحسب آخر إحصاء. وأمام كارثة اجتماعية مثل البطالة تنمو بشكل مستمر، وأمام دخول متدنية لا تكاد تسد الرمق...سنرى أسوأ وأعمق الآثار على مستقبل مجتمع ومدينة حتى لو ناطحت بعض بناياتها السحاب. البطالة تنتج الفقر والمشكلات الاجتماعية والجريمة ، وتهدر الكرامة وتسحق القيم الأخلاقية تحت سنابك الحاجة. لماذا ظلت معالجاتنا لقضية خطيرة ومؤثرة على هذا النحو الذي يأخذ صخبه مع كل تصريح أو إعلان أو مشاهد عجز؟ عندما نغرق اليوم في عشرات الآلاف من العاطلين الذكور الباحثين عن عمل، وعشرات الآلاف من النساء القانعات بانتظار النصيب في بيوتهن بعد أن اكملن تعليمهن الجامعي، هل يمكن لنا أن نواجه أزمة يعبر عنها طوفان أربعة ملايين عاطل لو وصلنا إلى هذا الرقم التراكمي دون إنجاز يذكر أو معالجة ناجحة؟ كانت مسألة البطالة شبر ماء في محيط الوفرة، ولكنها قد تصبح طوفانا عاصفا في زمن قد لا يمكن التحكم بسقف آثارها أو مشكلاتها وتراكماتها التي نراها اليوم رأي العين. المدن التي تصيبها الأعاصير والأمطار المفاجئة بلا بنية تحتية قادرة على مواجهتها.. تواجه ما هو اخطر فيما يتعلق بإنسان ربما منحته قدرته الصبر والصمود على ظواهر طبيعية يمكن تجاوزها مثل أي سحابة صيف، ولكن من يمنحه حقه في الحياة مع إشراقة كل صباح وهو يتساءل كيف سيمضي هذا النهار؟ من يمنح هذا الجيل القدرة على البقاء في مواجهة أعاصير الحياة، وهو يرى التراخي والذبول والتحلل من المسؤولية مع كثير من الوعود وكثير من التصريحات وقليل من النتائج الايجابية، من يستعيده لحضن مدينة هي عنوان الوفرة، ولكنها عنوان التيه اليومي في سراديب البحث عن فرصة عمل؟