طرح مؤخرا الصحافي في مجلة النيويوركر الأمريكية ديفيد ريمنيك الكتاب الذي يعد الأهم لحد الآن عن الرئيس الأمريكي باراك أوباما . هذا الكتاب "الجسر .. حياة وصعود باراك أوباما" تعرض على الفور لآراء متضاربة فبعضها اعتبر أن الكتاب أتى في وقت مبكر جدا لدرجة يصعب الحكم بموضوعية على أوباما كما هو الأمر مع كل القضايا الأخرى التي ماتزال في طورالتحول والتبدل ولم تبتعد وتتوقف كليا حتى تتم قراءتها بطريقة موضوعية وعادلة . ولكن من جانب آخر ، كانت هناك آراء ترى أن هذا الكتاب أتى في وقت المناسب تماما كما أشار إلى رئيس تحرير مجلة النيوزويك جون ميشام في مقال له نشره بعنوان " كتاب جديد عن باراك أوباما " ، وبدا مقال ميشام احتفائيا بزميله حينما قال إنه من الصحافيين الذي تتمنى أن تكرهه ولكن مثله مثل كل القلة من الموهوبين الذي يتحول مسار الحسد إلى الإعجاب ويترك شعوراً بالاحترام وليس العداء. ونقل ميشام في مقاله عن الكتاب مقاطع جميلة قالها أوباما في الكتاب مثل هذا المقطع الذي يكشف عن تعقيد تفكير هذا الرئيس ، يقول :" أمريكا تتطور ، ولكن في هذا التطور مؤلم في بعض الأحيان. الناس لا يتقدمون بشكل مستقيم والدول أيضا لا تتطور بشكل مستقيم" ولكن في الواقع بعد مرور أكثر من عام على أوباما فإن رؤيته كرئيس متضاربة ومتقلبة بشكل سريع. فبعد مرحلة الانتخابات الصاخبة وحتى بعد توليه الرئاسة لم تفارق أوباما صورة الرئيس النجم التي جعلت أكبر المفكرين يصطفون خلفه ويعلنون تأييدهم بشكل صريح لتشريحه كما فعل المفكر فريد زكريا في مقال شهير وكذلك فرانسيس فوكوياما الذي رشح أوباما مع أنه بدا أقل حماسا وقال في مقابلة له في مجلة الشؤون الخارجية إن ترشيحه لأول رئيس أمريكي من أصل أفريقي جاء على طريقة الاستبعاد ، أي إنه لم يجد أحسن من أوباما لكي يكون رئيس لأمريكا في هذه الفترة ولكن مثل هذا الإعجاب تحول مع الوقت إلى حالة من البرود والتململ من هذا الرئيس الذي يبدو أنه مثالي وجيد أكثر من اللازم ، ولا يعجب الصحافة التي تبحث عن الرؤساء المثيريين مثل الرئيس الامريكي السابق جورج بوش الذي تحول إلى الموضوع الأساسي في البرامج الجادة وكذلك الموضوع الأساسي في البرامج الكوميدية . هذا البرود عبرت عنه بعض الكتابات الصحافية التي أشارت أحدها أن الصحافيين بالفعل ضجرون من أوباما الذي أصبح كأنه زميل لهم ، ومن المثير أن قناة فوكس نيوز المعادية لأوباما نشرت تقريرا إخباريا ينتقد أوباما بسبب كثرة مقابلاته الصحافية ، وفي الحقيقة هذا أمر غريب . الرؤساء ينتقدون في العادة بسبب انغلاقهم وكراهيتهم للصحافيين كما هي حال الرئيس الأمريكي نيكسون الذي يبغض الصحافيين ومن المعروف مشادته الكلامية مع الصحافي الامريكي الشهير دان راذر وفي أحد أغلفة مجلة النيوزويك الشهيرة نشرت صورة للرئيس الأمريكي جورج بوش داخل الفقاعة الرئاسية الأمر الذي يرمز إلى عزلته عن العالم الخارجي والانتقادات الموجهة لإدارته. ولكن هذا الجليد انكسر وارتفعت الحرارة كما هو متوقع مع رئيس أمريكا . ولكن هذا الحرارة اتت بشكل غير متوقع هذا المرة من الليبراليين الذي انتقدوا اوباما بشدة حيث ظهرت مجلة الشؤون الخارجية بغلاف يقارن بين أوباما والرئيس جيمي كارتر ، وكتب فريد زكريا الذي دعمه بقوة مقالا ناريا انتقد فيه أوباما على أن وضع نفسه في صراع الحزبيين في محاولة إصلاح العملية السياسية ونسي أن يقود ، مشيرا إلى أن أوباما بات يتصرف كأنه رئيس وزراء وليس رئيس أمريكا . جون ميشام أيضا انتقد أوباما مشيرا إلى أنه أجهد نفسه من أجل التغيير بأسرع وقت . بيل مير صاحب المعلق الكوميدي الشهير قال منتقدا أوباما إنه يريد يحلم بتغيير موقف المحافظين وقال موجها كلامه لأوباما إنهم لن يتغيروا ولكن أوباما اكتسب أكثر جاذبية بعد نجاحه في تمرير مشروع إصلاح النظام الصحي مع أن المحافظين باتوا يصفونه بأنه يحاول أن " يؤورب" أمريكا ويحولها إلى اشتراكية . كل هذا الكلام الكثير الذي يثيره أوباما الآن ومن يتابع جيدا سيدرك أن الشهور والسنوات القادمة ستكون أكثر اشتعالا والتهابا . في اعتقادي أن المرحلة التي مضت ماهي إلا فقط رأس جبل الجليد الذي تخفيه شخصية هذا الرئيس التي لا يمكن قراءتها بسهولة . بالفعل مهما بدا الآن ان أوباما يحاول ان يكون معتدلا ومثاليا فإن هذا لا يعكس بالحقيقة رؤيته السياسية خصوصا إذا ما اجبرته الظروف على اتخاذ قرارات مصيرية من المتوقع ان تواجهها امريكا خلال المرحلة القادمة . أما لماذا فهذا ما يعبر عنه اوباما نفسه بأكثر من جانب . الجانب السياسي والجانب الشخصي والجانب العائلي المتداخل معه . في الجانب السياسي بقدر ما يظهر اوباما نزعات واضحة من الاعتدال إلا أنه في الواقع يظهر أيضا نزعات واضحة من الواقعية التي قد تضطر إلى سفك الدماء . هذا أعلنه اوباما نفسه في كتابه " جرأة الأمل" الذي يعبر عن كراهيته للمواقف الأيديولوجية وشخصيته الباحثة عن المشترك مع الآخر وإيمانه بالحوار والحلول الدبلوماسية وكذلك بالطبع ابتعاده عن أي رؤية عقدية للعالم تصوره بأنه صراع بين الأخيار والأشرار . ولكن بذات الوقت يؤمن أوباما أن التغيير دائما لا يأتي فقط بالطرق الهادئة وعلى طرق الأنبياء ولكن أيضا بطرق هوجاء وعنيفة . أقرؤوا هذا المقطع الذي كتبه أوباما :" أفضل ما يمكن أن أفعله امام تاريخنا هو تذكير نفسي بأن البرغماتية أو صوت العقل أو قوة التسوية لم توجد على الدوام الظروف اللازمة للحرية والتحرر، وتذكرني الحقائق الصارخة أن المثاليين العنيديين من أمثال وليام لويد غاريسون، هم اول من أطلقوا نفير الدعوة للعدالة ، وأن العبيد والعبيد السابقين ، من أمثال دنمارك فيسي وفريدريك دوغلاس وهارييت توبمان هم الذين أدركوا أن السلطة لن تتنازل عن شيء دون قتال وأن الحرية تؤخذ ولا تعطى .. إن نبوءات جون براون الراديكالية واستعداده لإراقة الدماء وعدم الاكتفاء بالأقوال دفاعا عن رؤاه هي التي ساعدت على إثارة قضية الأمة المقسمة إلى عبيد وأحرار ...إن المهوسيين والمتطرفين والمتزمتين والانبياء والمهيجين والمتهورين هم الذين خاضوا المعركة أحيانا في سبيل نظام جديد .." هذا ما يقوله أوباما شخصيا ومن هنا يمكن لنا فهم لماذا يعتبراوباما الرئيس الامريكي أبراهام لينكولن مثله الاعلى وملهمه ، الذي يقول عنه اوباما إنه يفضل استثارة الجانب الملائكي التصالحي من الانسان عبر المجادلات والحوار والخطب ولكن إذا لم ينفع هذا الجانب فلا سبيل إلا إلى إراقة الدماء كما حدث في حرب الشمال والجنوب. ولكن حياة شخصية أوباما أيضا غامضة وليس من السهولة تفسيرها . إنه بلا شك شخصية عبقرية وساحرة بشكل استثنائي ولكن غريبة بذات الوقت . يكفي أن نتعرف على بعض ملامح من شبابه لندرك فعلا ذلك . أوباما كان يصوم عن الكلام لأيام بحيث لا يتحدث مع أحد كما أشار إلى ذلك تقرير قديم نشرته مجلة النيوزويك في قراءة لسيرة حياته . ألا يبدو ذلك غريبا ؟!. إن السبب خلف ذلك كما يبدو رغبة أوباما بالتأمل عبر الصمت الطويل والانعزال عن العالم الخارجي . لاشك أن هذه تجربة مثيرة وغريبة وربما تكشف عن قلقه الروحي العميق. علاقة أوباما مع النساء تكاد تكون معدومة خصوصا لدى شاب وسيم وذكي مثله حيث يبدو أنه يعيش بعالمه الخاص حيث تقول إحدى زميلاته التي كانت تكبره في العمر أنها كانت تشعر بالخجل من نفسها إذا ما شاهدته فهو لا يظهر أي تصرفات شبابية ويبدو أكبر من عمره بكثير. من المعروف أن اوباما دخن الماريوانا في شبابه ومحب للتدخين وعلى الرغم من وعوده لزوجته ميشيل بتركه إلا أنه لم يستطع وربما لا يزال لحد الآن يدخن داخل البيت الأبيض. كراهية أوباما لاسمه باراك وتبديله ل" باري" .إيمان بارك الشكوكي أيضا يكشف عن جانب من شخصيته التي تصنع إيمانها بنفسها وبطريقة عقلانية ولكن الأمر الأكثر إثارة عن شخصية والديه الأكثر غرابة وإثارة . فعلى الرغم من أنه عاش مع أمه وأبويها إلا أنه يستمد وراثيا شيئا من غرابة وغموض شخصية والده . شخصية أوباما العلمانية الروحانية التي فتحت عقله وروحه على جميع الثقافات والاديان ( في بيتهم يوجد القرآن والانجيل وكتابات هندوسية وبوذية ) تبدو بالفعل شخصية استثنائية ولكن في اعتقادي أن شخصية والده أكثر غرابة وتراجيدية حتى من شخصية الابن نفسه . أب اوباما العبقري والمحبط والمغترب والذي لم يجد من يسمعه تعكس القصة الانسانية التراجيدية بأعمق صورها . أما قصة ابنه الرئيس فعلى الرغم من أهميتها إلا أنها قصة نجاح باردة ، تماما مثل قصص الحب التي تنتهي بالزواج السعيد تبدو في الحقيقة باردة ومملة وسعيدة . أي لو أردت أن تتابع فيلما فمن المرجح أن ستتابع قصة حياة والده الشقي العبقري المحبط على ان تتابع فيلما عن حياة ابنه اللامع المدهش الناجح. هذه المقاطع التالية مقتبسة من كتاب أباوما " أحلام من والدي" تعكس قصة هذا الأب الحزين لرئيس أمريكا ، يكتب اوباما على لسان جدته :" بعد أقل من عامين وصلتنا رسالة من باراك تقوله إنه قابل فتاة أمريكية وأنه يود الزواج بها. باري أنت تعرف أن جدك كان معارضا لهذا الزواج . هذا صحيح ولكن ذلك لم يحدث بدون سبب. جدك لم يكن يعتقد ان والدك كان يتصرف بمسؤولية . لقد كتب ردا على باراك قائلا : كيف يمكن ان تتزوج هذه المرأة البيضاء وأنت لديك مسؤوليات هنا ؟!. هل ستعود هذه المرأة معك وتعيش كامرأة من قبليتنا ؟! هل ستقبل بأن لديك في الأساس زوجة وأطفالاً . أنا لم أسمع أن الناس البيض قد يتفهموا شيئا مثل هذا . نساؤهم غيورات واعتدن على أن يكن مدللات . ولكن إذا كنت مخطئاً في هذه القضية دع والدها يأتي إلى كوخي ونتناقش حول هذا الوضع. هذه الشؤون للكبار وليست للأطفال " ماحدث بعد ذلك أن باراك تزوجها الأمر الذي أغضب جد أباوما لدرجة أنه هدد بإلغاء تأشيرته ولكن والده عاد وحيداً بعد عامين اي بعد أن انفصل عن زوجته تاركا ابنه الصغير . في الواقع أن شخصية الأب كانت متألمة وعالقة بين عالمين بالإضافة إلى شخصيته المنعزلة المتوحدة التي كما تقول عنه أمه تدفع الجميع بعيدا عنه حتى عن أطفاله وزوجاته وربما لهذا السبب انفصل عن أم أوباما . فهو يبدو أنه من الشخصيات التي تعاني من الاغتراب الروحي التي تعزله عن العالم لدرجة دفعت أمه لتقول بكلمات مؤثرة إنها توقفت عن إسداء النصائح له بعد أن ظل يقول لها : أنت لا تفهمين ما أقوله . وتضيف بأنها ظلت فقط تستمع . وتقول الجدة بطريقة منكسرة عن ابنها : أعتقد أن هذا كان اكثر شيء كان يحتاجه باراك ، أحد يستمع له . أظن حتى لو كان هناك من يستمع له فباراك كان يتجه لحتفه مثله مثل كل الشخصيات التي تعاني من ثقل أرواحها وإذا ما تحالفت هذه مع الظروف فإنها ستؤدي إلى الكارثة . والد أوباما المسلم فقد أيمانه ومن السهولة تصور القطيعة التي حدثت معه داخل مجتمعه وبالأخص مع والديه المؤمنين على الطريقة التقليدية . إضافة إلى ذلك شعور والده بالغبن لأنه لم يحصل على المستويات الوظيفية التي يستحقها بالمقارنة مع موهبته وكفاءته بالمقارنة مع غيره الأمر الذي أدخله في حالة من الاكتئاب. تقول جدة أوباما إنه في الأيام الاخيرة لحياة الجد وصلت القطيعة بين الأب والابن لدرجة كانا يجلسان ويأكلان من مائدة واحدة بدون أن يتفوها بأي كلمة . بعد ذلك انتهت حياة هذا الأب بنهاية مأساوية غير متوقعة عندما اصطدمت سيارته بشجرة على الطريق المظلم وهو الذي كان غشيما في القيادة. هذا الأب المحبط والذي يشعر بنقض العدالة أصبح ابنه رئيس لامريكا الآن . ربما يعود له الفضل في ذلك إن لم يكن بجينات الذكاء التي نقلها لابنه فربما بجعل قصة الابن اكثر جاذبية وإثارة ....