بعد أن يئست من العمل في الحلاقة كأجير في بيروت، انتقلت إلى دمشق للغاية نفسها، إلا أن الحظ لم يبتسم لي في الشام، وكان هذا من حظي، لأن الصديق العزيز نديم عدي، الذي استضافني في بيته مشكوراً، قال لي، وكان من الحزب الوطني: - إسمع يا صديقي حنا، لنترك الحلاقة ولعنتها، ونبحث عن عمل آخر، أفضل لكنه أصعب! أجبته: - مواجهة الصعاب هي مهنتي منذ أبصرت عيناي النور، فقد ولدت في حاضنة الشقاء، ولا أزال في حرب معه، ولي ثقة إنني سأنتصر عليه، في يوم من الأيام.. ما هي اللعنة الجديدة، الصعبة كما تقول. - ابتسم الصدق نديم عدي، الذي أدين له سابقاً ولاحقاً، بما أسدى إلي من معروف متواصل، كان ولا يزال موضع شكر وامتنان من قبلي، ثم فاجأني بعبارة أدهشتني: - ما رأيك في أن تشتغل بالصحافة؟ - بالصحافة؟ - نعم بالصحافة، ولماذا الاستغراب، أنت تكتب جيداً، منذ كنت حلاقاً في حارة القلعة في اللاذقية، وأنا قرأت لك وأعرفك جيداً بسبب القربى التي بيننا! فكرت قليلاً وقلت: - من اجير مرفوض في الحلاقة، إلى محرر مقبول في الصحافة؟ هذه نكتة! قال الصديق نديم: - نكتة غريبة! - وعجيبة أيضاً.. نحن، يا صديقي، لسنا في زمن العجائب.. لو عرضت علي أن أعمل كرسوناً في مقهى، لكان ذلك مناسباً وجدياً وبعيداً عن النكتة.. - أنت، يا صديقي، لا تخاف الحياة، وتقول إنك ستجعل الحياة تخاف منك.. نعم أم لا؟ - نعم ثم نعم.. وهذا تاريخي.. إنني متمرس في السياسة نظرياً وعملياً، ومتمرس في النضال كذلك، وقد رأيت الموت كثيراً، فلم أهَبْه.. الموت جبان، إلا أن الحظ، وكيلا أغشّك، ضدّي فماذا أفعل!؟ لم أنجح في الحلاقة لأنني لم أكن مسلكياً فيها، غير أن الحلاقة شيء.. والصحافة شيء آخر.. فلا تزيد الدنيا سواداً في عيني.. صحافة قال صحافة!! دبّر لي عملاً معقولاً، أرجوك.. - سألني بكياسة: - كم مرة دخلت السجن، ضد فرنسا وضد الإقطاع، وضد الحظ السيئ، الذي يلاحقك كما تقول؟ - كثيراً! السجن، في تلك الأيام، كان بخمسة نجوم! أما الآن فإنه بنجمة واحدة.. - لكن السجن هو السجن.. بخمسة نجوم أم بنجمة واحدة، وأنا أعرض عليك أن تعمل في الصحافة لا أن تعود إلى السجن.. - هذا كله مفهوم.. لكن الصحافة حلم أكبر وغير واقعي.. أنا لم أنجح في الحلاقة، فكيف أنجح في الصحافة!؟ قال نديم: 0 العطشان يشرب من الماء العكر.. وأنت عطشان فجرب الماء العكر، ولن تخسر شيئاً.. - هذه الحكمة صحيحة.. ولكن كيف؟ أنت تعرف إنني من الحزب الوطني، والأستاذ وجيه الحفار من الحزب الوطني أيضاً، ويحتاج إلى محرر.. فماذا تخسر لو ذهبت معي إليه؟ - لن أخسر شيئاً.. ما اسم جريدته؟ - الإنشاء.. - سمعت بها، ويسرني أن أتعرف على صاحبها.. وآمل أن يكون لطيفاً معي، ويقبل أن يجربني.. لكن دون أن يهزأ بي، لأنّ المناضل مثلي، كرامته هي رأسماله، ولن أقبل بخسران آخر ما لدي وهو الكرامة.. خذني إليه! - على شرط! - كل شروطك مقبولة ما دمت أنت معي! - أنا لن أكون معك.. إذهب وحدك.. وتحمل الأذى وحدك، وهذا أفضل لي ولك.. - قبلت بما تقول.. هذا من الحكمة التي ألعنها.. خذني إلى مكان الجريدة، وسأكون كما ينبغي، فالمثل يقول: «إذا كنت غريباً فكن أديباً» وسأكون أديباً، صبوراً، قدر المستطاع. - قدر المستطاع هذه لا ضرورة لها.. كن صبوراً، مهما كان الموقف محرجاً.. ذهبت مع هذا الصديق إلى بناية القدسي، مقابل البريد المركزي الآن، وطلبت الإذن اللازم لمقابلة الأستاذ وجيه الحفار.. انتطرت حتى انتهى من كتابة الافتتاحية، وعندما دخلت إلى مكتبه، راعتني فخامته، وراقني ترحيب الأستاذ وجيه بي، رغم أنه لم يقل لي «تفضل إجلس» وكان يضع نظارة ذهبية، وله وجه مريح، أقرب إلى الطيبة، ولياقة متميزة، في اللباس وفي الكلام، لكنه، وهذا حقه وفي موضعه، ودهش عندما سألني: - هل عملت في الصحافة قبل الآن؟ ومع من الصحفيين في سورية؟ - لم أعمل في الصحافة قبل الآن! - وماذ تحمل من شهادات؟ - لا أحمل أية شهادة! - وتريد أن تعمل في الصحافة؟ - جربني.. أرجوك. فكر قليلاً، وأنا أقف أمامه، أنتظرُ قراره الذي سيحدد مصيري، وبعد هُنيهة نظر إلي متفحصاً وقال: - هذه هي المرة الأولى التي أصادف فيها إنساناً جريئاً، واثقاً من نفسه، لا يحمل أية شهادة، ويريد أن يكون صحفياً.. أضاف: - من باب الرغبة في المعرفة لا أكثر، سأجرّبك، سأوافق على عملك في جريدتي لكن على شرط: - أوافق على كل شروطك.. - لا تستعجل يا ابني.. شرطي سيكون قاسياً - عرفت كل الشروط القاسية في حياتي وأنتصرت فيها! - أنت واثق من نفسك بأكثر مما يجب.. - بل بأقل ما يجب.. - هكذا؟ - نعم هكذا.. - هذا جواب فيه الكثير من التحدي.. من يريد أن يعمل لا يتحدى صاحب العمل بهذا الشكل.. - أنت يا أستاذ لطيف جداً.. - وكيف اكتشفت هذا اللطف، بهذه السرعة؟ - قلت لي من يطلب عملاً لا يتحدى بهذا الشكل.. لكنك في سرك قلت بهذه الوقاحة! - ابتسم من تحت نظارتيه وقال: - بصراحة: نعم! قلت ذلك في سري. أضاف: ولكن هذا من الفراسة، إذا لم أقل من علم النفس.. أنت غريب يا ابني، والغرابة هنا مردّها إلى الكذب. - الكذب رأس المعاصي.. وفي حياتي لم أرتكب هذه المعصية. - ارتكبتها! - كيف؟ - قلت إنك كنت حلاقاً - هذا صحيح تماماً! - الحلاق يكون ثرثاراً عادة، وهذا من الجهل.. أما أنت فتعرف، لكن أجوبتك فيها وقاحة لا ثرثرة.. - تماماً! - وتقول تماماً بلا مبالاة! - تعبت من الوقوف.. هذه هي المسألة.. - المسألة إنني امتحنك. - ألا ترى، يا أستاذ، إن هذا الامتحان طال أكثر مما ينبغي.. هي كلمة واحدة: تقبلني محرراً أم لا؟ قال بلهجة مغايرة، فيها انزعاج: - أقبلك كتجربة: تعمل ثلاثة أشهر بغير راتب. - أوافق. - مع السلامة.. أذهب إلى الأستاذ أحمد علوش مدير التحرير! ذهبت.. عملت، جربني، نجحت التجربة.. كان الأستاذ أحمد علوش رائعاً، من جماعة أكرم الحوراني، وقد أفدت منه كثيراً، وأحببته كثيراً، وبعد شهر واحد، ودون أن أعرف، دخَلَ على الأستاذ وجيه، وقدم شهادة حسنة عني، وربما أكثر من ذلك، فاستدعاني الأستاذ وجيه الحفار وقال لي: - الأستاذ أحمد أثْنى عليك، وشهد بأنك مجتهد، وتتقن عملك، لذلك اكتفي بتجربتك لمدة شهر واحد، واعتباراً من بداية هذا الشهر سيكون أجرك مائة ليرة سورية.. ما قولك؟ - أشكرك وأشكر الأستاذ أحمد، لكنني جائع، وإذا كان ذلك ممكناً، فإنني أطلب عشر ليرات على الحساب، كي آكل لأنني جائع. ابتسم الأستاذ وجيه وضغط على الجرس، فلما جاء المحاسب قال له: - إدفع للأستاذ حنا عشر ليرات سورية على الحساب.. وبعد أن خرج المحاسب قال: - وهذه خمس ليرات تشجيعاً مني! - شكرته واعتذرت عن قبول ليراته الخمس التشجيعية، ومنذ ذلك اليوم، كان ود بيننا، بل أكثر.. كان في أوقات الفراغ يطلبني إلى مكتبه، ويطلب لي قهوة، ونتحدث في بعض الأمور، ومن باب المودة أو التشجيع كان يقول لي: - أكاد لا أصدق أنك كنت حلاقاً! فأجيبه: - هل هذا لأنني غير ثرثار؟ - لا! أبداً قلْ من باب الإعجاب.. أنت، يا أستاذ حنا، لم تكن حلاقاً فقط.. - كنت حلاقاً غير مسلكي.. كان لدي، في سريرتي، طموح لا أعرف ما هو.. - والآن؟ عرفت هذا الطموح!؟ - تقريباً.. - وإذا قلت لك إنك ستكون مدير التحرير، لأن الأستاذ أحمد سيغادرنا، وظني إنه سيسعى إلى أن يكون صاحب جريدة ما.. - هذا يسرني من جهة، ويحزنني من جهة أخرى.. الأستاذ أحمد أستاذي! - لكنه يقول عنك «رب تلميذ يفوق استاذه» - هذا من تواضعه. - ومن كفاءتك.. تظنني لا أعرف من أنت؟ - مَن أنا؟ - شيوعي حتى العظم! - لكنني أعمل في جريدة صاحبها من الحزب الوطني. - هذا لا يتعارض مع المبدأ.. أنت أمين ومؤتمن.. لا تكتب حرفاً فيه لك منفعة خاصة.. - الله يعلم.. أنا، يا أستاذ وجيه، خريج مدرستك الصحفية! - هذا فيه قدر كبير من التواضع. - يكفي أنه حقيقة.. ودارت الأيام، وسجن الأستاذ وجيه الحفار في اليوم الأول لانقلاب حسني الزعيم، بينما هربت أنا إلى لبنان، وبعد زوال حسني الزعيم، عدت للعمل مع الأستاذ وجيه، إنما في مجلة الإنشاء وعندما وجد أن المجلة لم تنجح، عاد إلى إصدار الجريدة بأربع صفحات، كما كانت الصحف تلك الأيام، وعدت لأعمل معه كمدير للتحرير.. ثم تغيرت الأوضاع سياسياً، ولم يعد ممكناً العمل معاً.. فصارحني بذلك، ودفع لي تعويضاتي كاملة، وافترقنا على أمل اللقاء.. لكننا لم نلتق مع الأسف، لأنني غادرت سورية، لأسباب قاهرة! وفي غيابي انتقل وجيه الحفار إلى رحمة الله، وقد حزنت لذلك، وليس لي، ختاماً، سوى هذا القول: «يا دارجاً في الخالدين ضميره صلت عليك الرفقة الأبرار»