وقفت قريباً من جدران عالية..وأبواب مؤصدة..وحراس يرقبون بنظراتهم كل العيون التي تعبر أمامهم..وحين اقتربت أكثر من المكان، وسمح لي بالدخول، رصدت المشهد الأول بعيون مندهشة عن عالم آخر مختلف..مثقل بهمومه وحسراته.. يعيش لحظات من العمر الفاني قبل أن يحين موعد رحيله..نظرت إلى وجوه بعضهن معلقة نحو الأعلى وهن يسترجعن ماضيهن.. وحكايات الجريمة التي اقترفنها.. واستمعت من جانب آخر إلى ثرثرة البقية بصوت عالٍ عن قصص ومواقف الماضي بحثاً عمن يصدقهن.. وفي كلا الحالتين لم يتغير من واقعهن شيء.. وبقين داخل الأسوار العالية، وخلف القضبان، ونظراتهن وحديثهن كما هو كل يوم.. في هذا التحقيق وقفت على قضايا السجينات المطلات برؤوسهن على خيوط جرائمهن؛ لتبقى هناك صورة واضحة لمبدأ الثواب والعقاب، لكنني وجدت أن هناك تفاصيل بين الوجوه الكثيرة التي التقيتها في سجن النساء بالدمام ترغب العودة إلى الحياة مجدداً.. ولكن هل تغيرت حياتهن إلى الأفضل؟.. مواصلة التعليم وحفظ القرآن و«المهن اليدوية» تحفزهن على إنهاء محكوميتهن منتجات سجينات للمشاركة في «معرض العروس» على الرغم من أن السجن النسائي بإصلاحية الدمام يبدو عليه القدم، إلا أنه يدفع الكثير من السجينات إلى صفوف الحياة، فمع تنقلي بين ممراته وغرفه واختلاطي بالسجينات، خاصة الأجنبيات من الجنسيات المختلفة واللواتي كنت أشعر بأنهن كما لوكن في نزهة لفرط الابتسامة التي ارتسمت على وجوههن، وكذلك المرح ولا أعرف السبب.. ربما لألفة المرء المكان الذي يسكنه دور في ذلك، وكذلك دور إدارة السجن النسائية والتي بدت قريبة جداً من نزيلاتها، وكأنهن موجودات للقيام بشؤونهن ومساعدتهن على تخطي تلك المحنة بسلام. بيئة السجن يتكون السجن النسائي من عنابر النزيلات والتي يصل عددها إلى سبع غرف تستوعب الغرفة الواحدة عشرين نزيلة مزودة بدورات المياه، كما يشتمل السجن النسائي على المشغل وهو المكان الأهم الذي يقدم للسجينة الشعور بالهدف في الحياة، وكذلك على غرف الإداريات والمكتبة وغرفة الملاحظات من السجانات وغرفة العزل، والفصل المخصص لتعليم السجينات وغرفة تمريض للعلاج. تجاوز الخطأ مرهون بتأهيل السجينة نفسياً الأجنبيات أكثر وأوضحت مديرة السجن النسائي بإصلاحية الدمام "دينا الدوسري" أن السجن يشتمل على عدد من السجينات تترواح جنسياتهن مابين السعوديات والأجنبيات، إلا أن نسبة السعوديات قليلة مقابل نسبة الأجنبيات، خاصة العمالة منها، ومما ساعد على ذلك العفو الملكي الذي بادر به الملك عبدالله -حفظه الله-، فقد كان له دور كبير في حل الكثير من الصعوبات التي تواجهها إدارة السجن لكثرة أعداد السعوديات، فالقضايا التي تدور حول المخدرات والقضايا الأخلاقية وغيرها هي القضايا التي شملها العفو في حين تبقى قضايا القتل والدين هي القضايا المعلقة لا رتباطها بالحق الخاص. ترحيل أطفال السجينات إلى «الإيواء» بعد بلوغهم سنتين..ومشهد الفراق مؤثر! النزاعات الأسرية وحول بعض النزاعات بين السجينات وأسرهن، أوضحت "الدوسري" أن إدارة السجن لها دور في محاولة التقريب بين السجينة وبين أسرتها في حالة وجدت الخلافات، وذلك في تخصيص باحث اجتماعي نظراً لعدم وجود باحثه اجتماعية في الوقت الراهن، حيث يقوم بالتقريب بين السجينة وأسرتها وفي حالة كان هناك صعوبة في حل تلك الخلافات فإن السجن يقوم بتحويل تلك الخلافات الأسرية إلى مكتب الإشراف الاجتماعي، والذي بدوره يتولى مهمة توثيق تلك العلاقات الأسرية، في حين توجد بعض الحالات قد يرفض مكتب الإشراف الاجتماعي استلامها خاصة تلك الحالات التي تكون فيها السجينة غير متعاونة وفي تلك الحالة تحول الخلافات إلى إصلاح ذات البين، وإذا لم تستطع تلك الجهة على حل الخلافات الأسرية فإنه يتم تزويج السجينة بالبحث لها عن زوج عن طريق باحث اجتماعي بعد أن تتم النظرة الشرعية ويحدث ذلك الزواج أمام "الشيخ"، مشيرة إلى أن حالات الزواج تلك تراوحت مابين " 3 إلى 4" حالات لمواطنات. محاكمة السجينة من جهة أخرى قالت "الدوسري" إن هناك صعوبة في تنقل السجينة والذهاب بها إلى المحكمة للمثول أمام القاضي وتبادل تفاصيل قضيتها للحكم عليها، فسابقاً كان هذا يحل عن طريق وجود محاكم داخل السجن إلا أن ذلك أوقف، متمنية فيما لو أعيد تشكيل محكمة نسائية داخل سجن النساء يتم فيها امتثال السجينات أمام القاضي حتى يسهل عليهن التنقل بالسجينات، لاسيما أن هناك صعوبة في التنقل بالسجينة، وذلك لخصوصيتها كامرأة. سجينة تحفظ القرآن لتخفيف محكوميتها مشروعات وإبداعات ويعتبر المشغل الذي أعد للسجينات من أجل استغلال أوقاتهن بما يعود عليهن بالنفع من أكثر الأمور المدهشة والتي تستحق الوقوف عليها، وتعتبر خطوة جيدة جداً تحسب لإدارة السجن التي بدا واضحاً جهده في محاولة التنفيس عن السجينة باستخراج مواهبها الإبداعية، فقد خصصت لهن غرفتان الأولى تمثل مشغلاً للخياطة وحياكة بعض الحقائب النسائية، وكذلك قطع تجميلية من الخوص والصوف والتي قامت السجينات بحياكتها بشكل مبدع تكشف عن مواهبهن، كما خصصت الغرفة الثانية لأعمال الخيش والتي منها تصنع مختلف الأشياء المخصصة لاستخدام الخيش والتي كانت النزيلات تعمل بها في انسجام وسعادة كبيرة، وهو ما أكدته المشرفة على الأشغال اليدوية للسجينات، مشيرة إلى أن عدد المشتغلات في ذلك المشغل يصل إلى 48 سجينة من مختلف الجنسيات، وقد لاحظت بأن السجينات يقبلن على تلك الأعمال اليدوية بشكل كبير، وذلك من أجل تقضية مدة محكوميتهن في عمل مفيد يشغل أوقات فراغهن، لذلك يبدأن منذ الصباح حتى بعد الظهيرة دون ملل، موضحة أن لتلك الأشغال دوراً كبيراً في تحسين سلوك السجينة، فقد لوحظ أن السجينة التي تندمج في الأعمال اليدوية أنها تتسم بالسلوك الجيد داخل السجن في حين تتصف السجينة التي ترفض المشاركة في تلك الأعمال بالسلوك العدواني في العنابر. دينا الدوسري:المحاكم داخل السجون أفضل للنزيلات وتراعي خصوصيتهن وأضافت أن ذلك الجهد أثمر عن اشتراك السجينات بمعارض عدة من أهمها معرض الظهران الدولي والمعرض الذي أقيم في قاعة القصيبي، ومعرض كلية العلوم بالدمام ومعرض تابع للتربية والتعليم، وأخيراً معرض الجنادرية والذي نال إعجاب الكثيرات، حيث بيعت جميع منتجات السجينات حتى وصل الربح إلى "13" ألف ريال، مما أثار حماس وسعادة السجينات وشجعهن على الاجتهاد للمشاركة في معارض أخرى التي من أهمها معرض العروس الذي سيقام في مدينة الخبر وستشارك فيه السجينات بمبتكراتهن، وذلك مما يدخل في اهتمام إدارة السجن التي تحرص على توفير المواد الخام لهن لتشجيعهن، كما خصص لمن يشتغل من السجينات في تلك الأعمال اليدوية مكافأة شهرية تصل إلى 150 ريالاً، بالإضافة إلى المكافأة التي تصرف لكل سجينة، متمنية أن يكون هناك توفير لمكائن الخياطة المطورة حتى يتم تفعيل ذلك المشروع المشرق. السجينات وحفظ القرآن وحرصاً من إدارة السجن على إعادة بناء "العلاقة الروحانية" داخل السجينة، فقد وضعت مكافأة تحفيزية تتضمن التقليل من مدة محكومية السجينة لمن تقوم بحفظ القرآن الكريم، فكلما حفظت أكثر قلت مدة محكومتيها، لذلك خصصت معلمة متخصصة لحفظ القرآن الكريم لتعليم السجينات وتشجيعهن والمنتدبة من جمعية تحفيظ القرآن الكريم، كما خصص فصل مؤهل لذلك، إلى جانب تعليم محو الأمية للكبار. وأشارت معلمة التحفيظ "فاطمة" إلى تجربة التحاقها بالسجن، حيث تكللتها صعوبة في بداية الأمر حتى استطاعت أن تحرز نجاحاً مع السجينات خلال ثلاث سنوات، حيث تعلم القرآن ثلاثة أيام في الأسبوع وجدت خلالها إقبالاً كبيراً من السجينات على الحفظ، فأكثر سجينة وصلت إلى حفظ 15 جزءاً من القرآن خلال سنة ونصف، كماوصل مقدار المقبلات على الحفظ "147" سجينة. تعليم الكبار وتشارك في تعليم السجينات المناهج الدراسية "معلمتان" خصصتا لتعليم محو الأمية، من خلال المناهج المعتمدة من إدارة التربية والتعليم، حيث تتفاوت أعداد المقبلات على التعليم مابين السعوديات والأجنبيات، وذلك يحكمه كثيراً مدة محكوميه السجينة. وتشير المعلمة "فاديا" إلى أنها أقبلت على تعليم السجينات حيث تخوض تجربة تجدها جيدة ولا تختلف كثيراً عن تجربة تعليم طالبات المدارس، على الرغم من أن تعليم السجينات يساوي من حيث الراتب والحوافز تعليم طالبات المدارس العاديات، إلا أن الهدف تنوير السجينات بالعلم. أطفال في السجن يخطو مسرعاً بخطوات غير متزنة نحو الأمام، يرفع يديه ليضبط مشيته، يقع ثم يقف مرة أخرى، يفتح فمه يبتسم لأمه التي تطلب منه التقدم إلى الأمام، فيما هو يصدر أصوات الطفولة من قلبه متلفتاً يميناً ويساراً ينظر للسجينات اللواتي يصفقن له يشجعنه على مواصلة السير فيمشي ثم يقع، أخرجني ذلك المشهد من جدران السجن العالية لأبتسم وأنا أتأمل صورة ذلك الطفل وبعض أطفال السجن الذين ينشؤون برفقة أمهاتهم، وهم يعتقدون أن الحياة تبدأ من هنا، أما الأمهات فيتمسكن بذلك الطفل الذي تذكرهن خطواته بالضجيج الذي غادرنه خارجاً بفعل الجريمة، وربما وجدن في رائحة أصابعه شروق الشمس الحر. ويسمح للسجينة التي حملت "سفاحاً" الاحتفاظ برضيعها حتى السنتين من عمره، ثم يودع إلى دار الإيواء، وذلك من منطلق الرحمة حتى يتسنى للأم إرضاع طفلها والاعتناء به، كما يوفر السجن للطفل جميع احتياجاته من الحليب والثياب والألعاب وكل مايستخدمه الطفل في هذه المرحلة، وفي لحظة ترحيله يكون هناك مشهد حزن كبير ومؤثر من الأم. وأوضحت "دينا الدوسري" أن عدد الأطفال الموجودين في السجن يتراوح بين 10 إلى 20 طفلاً توفر لهم كل العناية اللازمة. مبنى جديد يستعد سجن إصلاحية الدمام "القسم النسائي" الانتقال في غضون الأسابيع المقبلة إلى مبنى جديد مؤهل بكل الإمكانيات المتاحة لتوفير الجو المناسب للنزيلات، وسيشتمل المبنى على غرف مؤهلة وواسعة وعلى فصول تعليمية وصالات رياضية وصالة طعام وحضانة أطفال مجهزة بالكامل، وكذلك على مشغل معد للأعمال اليدوية التي تقوم بها السجينات، موضحة "الدوسري" أن ذلك المبنى سيفتح مجال توظيف نسائي خاصة للأخصائيات الاجتماعيات والموظفات الإداريات.