تحدثنا في موضوع سابق عن "سعة بنية قنوات شبكات الاتصالات" والتي من الممكن أن نسميها "بالذهب الأسود"، كما يقول "تيم وُو Tim Wu" الأستاذ في جامعة كولومبيا الأمريكية الشهيرة. فالطلب على هذه السعة كبير ويتجاوز ما هو متوفر حالياً، مما يتسبب في انخفاض مستوى أداء الشبكات ويحد من قدرتها على استيعاب التطبيقات المعلوماتية الكثيرة المستندة إليها. كما أن هذا الطلب مُتزايد بشهية مفتوحة من قبل المستخدمين والتطبيقات والخدمات الجديدة التي تتطلب سعات أكثر في الاتصال، مما يُؤدي إلى تفاقم المُشكلة وتوسع أثرها في المستقبل. وهناك في الواقع حلول فنية مُختلفة لمسألة الذهب الأسود الجديد هذه. وتتمثل هذه الحلول في كابلات الألياف البصرية، وذلك في إطار الاتصالات السلكية محلياً ودولياً. كما تتمثل أيضاً في تطور المبدأ الخلوي في الاتصالات اللاسلكية على المستوى المحلي؛ وكذلك في التطور في أقمار الاتصالات ومعطياتها في إطار الاتصالات اللاسلكية على المستوى الدولي. لكن هذه الحلول تُقبل أو تُستبعد تبعاً لمعطياتها الاقتصادية من وجهة نظر مُقدمي الخدمة، وليس على أساس فوائدها للإنسان والمُجتمع. وسوف نطرح هذا الأمر هنا من مُنطلق مبدأ "اليد الاقتصادية الخفية"، المُنظمة لنشاطات الناس، الذي وضعه آدم سميث في كتابه "ثروة الأمم" والذي كان دليلاً اقتصادياً للدول المُختلفة منذ القرن الثامن عشر للميلاد. يقول مبدأ اليد الاقتصادية الخفية إن النشاط الاقتصادي لأي إنسان يتطلع أساساً إلى الحصول على فائدة ذاتية لنفسه. وأن هذا النشاط يُقدم فوائد يحتاجها الآخرون ويدفعون ثمنها من خلال أعمال يقومون بها ويتطلعون من خلالها إلى فوائد ذاتية لهم أيضاً. هذا التبادل في المصالح النابعة من إرضاء الذات يُمثل يداً خفية تُحرك نشاطات الإنسان في مُختلف المجالات، بشكل مُتكامل، وتُؤدي إلى زيادة إمكانات المُجتمعات وازدهارها. وكأمثلة على ذلك يُمكن ذكر التكامل في نشاطات المُزارع الذي يُقدم الثمار والألبان، مع نشاطات البنّاء الذي يُشيد المنازل، ونشاطات الطاهي الذي يُقدم الطعام، ونشاطات السائق الذي ينقل البضائع، وما إلى ذلك من نشاطات يحتاجها الجميع ويتبادلونها، كُل لمصلحته الذاتية الخاصة. وقد حرص كثيرون، ومنهم آدم سميث صاحب فكرة اليد الاقتصادية الخفية ذاته، على ضرورة وضع ضوابط أخلاقية وقانونية لعمل اليد الخفية، كي لا تسيطر روح الأنانية المُطلقة على المُجتمعات. لكنه لم يتم الاتفاق على مقدار هذه الضوابط، فهناك من أراد لها أن تكون قوية ومُؤثرة، وهناك من أراد لها أن تكون محدودة للغاية من أجل تفعيل النشاطات الاقتصادية وعدم تقييدها أو وضع الحواجز أمامها. ويقول كثيرون بأن الأزمة الاقتصادية التي واجهها العالم مُؤخراً كانت بسبب محدودية الضوابط القانونية والأخلاقية أمام اليد الاقتصادية الخفية. وعودا إلى موضوع مسألة سعة بنية شبكات الاتصالات، المسماة بقضية الذهب الأسود الجديد، يجب عدم ترك اليد الاقتصادية الخفية دون ضوابط. فالمطلوب بنية ذات سعة كبيرة لكل مواطن أينما كان على مدى الاتساع الجغرافي الكبير للمملكة سواء في المدن أو القرى أو المناطق النائية. إن هذه السعة عامل ربط للمواطن بالوطن وبجميع الخدمات المتاحة له معلوماتياً، والتي ستُتاح في المستقبل، سواء من قبل الدولة أو من قبل القطاع الخاص. إن الربط المنشود بالسعة العالية المنشودة يحتاج إلى استثمارات كبيرة بعيدة المدى، وربما محدودة العوائد على المدى القريب. وقد لا يُشجع ذلك أصحاب اليد الاقتصادية الخفية على الإقدام على هذه الاستثمارات. والمطلوب هنا هو يد اقتصادية قوية وغير خفية تُحركها المصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة والفوائد الذاتية الضيقة.