متى يمكن للمرء أن يضع نقطة في آخر مرحلة من حياته ليبدأ من جديد .. متى يمكنه أن يقرر أن هذه المرحلة انتهت أو يجب أن تنتهي لكي يباشر في مرحلة اخرى و إحساس آخر و إنجاز جديد ؟ معظمنا لا يملك هذه القدرة وهذا القرار .. معظمنا لا يستطيع مهما حملت حياته من خيبات أن يقف و يعلن أنه اكتفى من مساره الحالي وأنه قرر تعديل أو تغيير مساره .. إنه قرر أن يبدأ من جديد .. البدء من جديد يعني طاقة جديدة نحتاجها لكي نصمد بها أمام مجهول نتحرق شوقا لملاقاته و في نفس الوقت نتراجع و نتوارى و نختبئ خوفا منه و حذرا مما قد يخبئه لنا من مفاجآت و عثرات .. و البدء من جديد يعني أن يكون لدينا القدرة على رؤية حطام القديم أمام أعيننا وأن نشاهد تصدعه وأن نلقي عليه نظرة مودع و نمضي وكأنه لم يكن .. من ذا الذي يستطيع أن يفعلها بسهولة ؟ و البدء من جديد يعني رؤية واضحة و هدفاً محدداً يستحق ان تلقي الحجر على بيتك الزجاجي القديم دون أن تخشى عاقبة تحطمه ودون أن يعطلك صوت تكسره و يشوش على إصرارك على المضي قدما .. البدء من جديد فعل قوي جدا .. صعب جدا .. مطلوب جدا و لذا فهو نادر جدا .. كم زوج وزوجة يضمهما سقف واحد، لكن تفرقهما ملايين السنوات الضوئية عن بعضهما فهما و تعايشا و تقبلا وراحة ورغم أن كلاً منهما فكر آلاف المرات في تغيير هذه الحياة الا انه مازال يحياها و يمني النفس بيوم سيستيقظ فيه حاملا قراره و قادرا على تنفيذه .. كم من موظف أرهقته قيود وظيفته وتعب من إيجاد نفسه و استغلال قدراته في كادر يشبه السجن لا يسمح له بالحركة إلا وفق إيقاع الروتين، أراد و تمنى و حلم بأنه سيفرد جناحيه ذات يوم و يحلق عاليا نحو حرية قراره و نحو متنفس حقيقي لطاقاته و قدراته لكنه مازال قابعا خلف مكتبه يحلم و يتمنى و يتألم دون أن يستطيع أن يضع النقطة الذهبية في نهاية سطره الوظيفي ويبدأ من جديد .. و كم من طالب علق في تخصص فرضه عليه واقع يرفضه لكنه لا يملك أن يغيره و كم وكم وكم والناس خلف هذه الكم كثير .. مرهقون .. تحلم و تتمنى و تتجرع آلامها دون أن تجرؤ على فعل التغيير أو تجسر على وضع النقطة المستحيلة .. و لعل هؤلاء أن يجدوا بعض العزاء في أنهم ليسوا وحدهم و ان هناك من هو أفضل منهم وأقوى وأقدر لكنهم ايضا لا يفعلون .. بل اذا أرادوا عزاء أكبر فليستندوا على الرحمة التي تمنعهم من هدم كيان قائم يعيش في كنفه أناس لا ذنب لهم و لا يستحقون أن يهدم على رؤوسهم هذا الكيان حتى وإن كان على حساب راحته و رغبته .. يمكن للعاجزين و هم كثر أن يجدوا آلاف الاعذار و يمكنهم ان ينفسوا عن أنفسهم ببث الشكوى من حين لآخر و يمكنهم أن يجتمعوا في آخر كل أسبوع في استراحة يتبادلون النكات و يسخرون من واقعهم و يرشفون مع القهوة مواجعهم كما فعلوا و يفعلون دائما .. لكن اذا أرادوا التغيير وأرادوا الحياة وأرادوا نوعا جديدا لم يألفوه من الانجاز فعليهم أن يتحملوا عبء النقطة ويكتبوا السطر الجديد ...