صدر مؤخرًا باللغة الإنجليزية كتاب "أصوات من الصحراء: شعر النساء البدويات في المملكة العربية السعودية" (Desert Voices: Bedouin Women's Poetry in Saudi Arabia) عن دار تورس للدراسات الأكاديمية في نيويورك (2009)؛ لمؤلفته الدكتورة منيرة الغدير، الحاصلة على درجة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة كاليفورنيا في بروكلي، وتعمل أستاذًا مشاركًا في جامعة وسكونسن. وهي الآن رئيس قسم الأدب المقارن في جامعة قطر. ويقدم الكتاب قراءة مقارنة لشعر المرأة الشفهي في السعودية، حيث يعرض مجموعة من النصوص والمقطعات الشعرية بالاعتماد على ما جمعه عبدالله بن ردّاس في كتابه "شاعرات من البادية" الذي سبق استعراضه في هذه الزاوية في 16 نوفمبر 2006م. وقد نجحت المؤلفة في ترجمة النصوص إلى الإنجليزية مع المحافظة على روح اللغة وسياق القصيدة الثقافي ما أمكن. وقد عنيت المؤلفة بتقديم دراسة مفصّلة للشعرية الشفاهية لدى البدويات، مع الكشف عن جوانب نقدية متصلة بالدراسة، في محاولة للإجابة عن أسئلة مثل: كيف يمكن أن نقرأ الشعر الشفهي؟ وكيف نشرح أهميته التاريخية والثقافية بطريقة أكثر فعالية باللغة الإنجليزية؟ وهل يجب على أسلوبنا أن يكون مختلفًا عن الأساليب التحليلية المتبعة في دراسة الشعر العربي الكلاسيكي؟ وما النتائج النظرية التي سنصل إليها بعد الدراسة المقارنة لهذا الجنس الأدبي الشفهي النسوي الذي ظل مستبعدًا من اهتمام الباحثين؟ وهل ثمة نتائج سياسية تنجم عن هذه القراءة المقارنة؟ وتختتم بسؤال حول إمكانية دراسة القصائد الشفهية للبدويات من خلال النظرية الأدبية المعاصرة؟ وأوضحت في المقدمة رأيها في الدراسات الأدبية التي تتعامل مع النظريات الغربية، بأن بعض الدراسات العربية الأدبية ترفض الخضوع للنظرية الأدبية وللبحوث الفلسفية الغربية، من جانب، عندما تفترض أن أصحاب النظريات البلاغية (العرب القدماء والفلاسفة) قد درسوا هذه النظريات وطبقوها في معرفتهم السابقة. ومن جانب آخر، ينكر بعض الباحثين الإنجليز والأمريكيين الذين يدرسون التراث الأدبي في الشرق الأوسط النظرية الأدبية، لأنها غريبة عن المادة التي يبحثون فيها، ويرون أنه لابد من دراسة التراث الأدبي غير الغربي من قلب ثقافته وحضارته. وإذا كانت هذه المنهجية تؤيدها أغلب المدارس الأمريكية، إلا أن المؤلفة تفسّر ذلك على أنّ الغرب إنما يفعلون ذلك "وكأنهم يؤدّون دور السيد الذي يحمي عبده من قراءة الصيغ الفلسفية للرجل الأبيض، كي يُطيل وهْم مفهوم القديم والغرائبي". وترى أن هذا النوع من الدراسات "يسعى إلى إقصاء الشرق على أنه الآخر البدائي والبعيد، ويجعلونه مرآة يرى فيها الغرب نفسه، ويتمسّك من خلالها بصورته النرجسية والحضارية". وتؤكد على أن مبدأ عدم الاستمرارية والتحديد، بين النظرية الغربية والأدب غير الغربي هو "مبدأ يعتمد على الاحتواء والقمع"، وتجد أن التمايز أو التقسيم بين الغرب (صاحب النظرية) والشرق (صاحب النص) يكشف عن "الرغبة في الحفاظ على الجدلية التي تؤكد تفوّق طرف وحيد" (وهو هنا الغربي). وتشير في موضع آخر إلى أن "منطق الاستعمار يشجّع على مثل هذه التقسيمات". ومع أن هذا الاحتمال ممكن، إلا أن عددًا من الباحثين لايتّفقون مع المؤلفة في هذه الرؤية التي تذهب بعيدًا في تقصّي الظاهرة وتأويلها. ورغم جدّية هذا التفسير إلا أن الواقع يوضّح أننا إزاء أمرين لاينفصلان: الأول أن الغرب (والأمريكيين مثالا) يتعاملون مع المادة (النص) مباشرة دون استحضار كم هائل من الفرضيات المسبقة على النص (التي تصحّ أو لاتصح). وهذا يصدق على مجالات كثيرة منها الدراسة الأدبية والثقافية التي مرّ عدد منّا بها في قاعات الدرس في الجامعات الأمريكية. ويصدق على العلاج النفسي (السلوكي بدلا من التحليلي)، ويتناسب مع العلاج الطبي البدني (التعامل مع الداء ثم أسبابه)، وينطبق كذلك على الحلول الأمنية (المواجهة لا الاستدراج والإيقاع في كمين)، وربما نجده في الجانب الاقتصادي (التعامل مع عرض السوق أفضل من التعامل مع قيمة المخزون). والأمر الآخر هو طبيعة النص نفسه التي تفرض أن له سياقًا ثقافيًا مختلفًا عن السياق الذي نشأت فيه النظرية الغربية. ولتوضيح الفرق يمكن ضرب مثال بسيط في حياتنا؛ فصورة فتى وفتاة يُمسكان بأيدي بعضهما وهما في محلّ تجاري يفسّرها السعودي مباشرة على أنهما شقيقان، في حين لايخطر -هذا التفسير- على ذهن شخص أمريكي إطلاقًا، بل ربما يظن هذا التفسير نوعًا من الهراء. وقدّ مرّ معي في تدريسي أثناء تحليل قصيدة "خلا البيت" لبدر شاكر السياب أن فسّر عدد من طلاب مرحلة الماجستير السعوديين قول الشاعر في آخر النص: "أفاءا إلى قصة عن أمير.. تلامَح شباكه عن أميرة، تُدلّي إليه الضفيرة، ليرقى إليها" أن المقصود بالأميرين أخ وأخت. ونظرية "بروب" الغربية ترى أن الأمير رمز لعاشق الأميرة. ومع أن رأي الطلاب هو افتراضي، ولكنه بالتأكيد نابع من ثقافتهم، وهو محل اعتبار فيما لو أخذناهم على أنهم نصوص ثقافية معبّرة عن كيان إنساني له منطلقات حقيقية من حياتهم. ولعلي ممّن لايجدون ضرورة للاستحضار الدائم للنظرية الغربية ثم فرضها قسرًا على نص له سياق وبيئة ومكوّنات بشرية مختلفة كالنص العربي، مع المسارعة إلى القول إن ما تحويه أي نظرية يمكن الإفادة منه في الكشف عن زاوية معينة أو الإلمام بمعرفة غائية. وفي الجانب الأدبي، فقد أثرى كل من: فورستر، وبيرسي لوبوك، ونورثروب فراي، وبرنارد دي فوتو، وروبرت شولز، وستانلي هايمن، وجيرالد بنتلي وغيرهم التحليل النقدي برؤيتهم الغربية واستفادت منهم الدراسات العربية بمثل ما استفادت من جهود عرب ينطلقون من النص ذاته في دراساتهم أمثال: إحسان عباس، وتوفيق بكار، وسعد البازعي، وشكري عياد، وعبدالفتاح كيليطو، وعبدالله الغذامي، وعبدالمنعم تليمه، وعلي جواد الطاهر، ومحمد القويفلي وغيرهم. على أن الوقوف على كتاب أصوات من الصحراء يتطلب مجالا أوسع، وخاصة أنه بالفعل "أزال الغبار عن تراث مهم من ناحية نوعية وجمالية، لذا هو كَشْفٌ عن مادة غير عادية..". وعرض منهجًا له أهميته في التعامل مع ثقافة لاتزال قائمة، وتفعل فعلها في إنسان هذه الأرض، كما قدّم تأملات فلسفية في مسائل إنسانية كاللغة والقيم والحب والموت والعزاء ومشاعر النساء والروابط الإنسانية والحيوانية والعلاقات مع المحيط الزماني والمكاني.