لا داعي لتذكيركم بأننا نعيش في عصر يزداد عولمة وانفتاحا بارتفاع قامة أبنائنا طولا .. ومع هذا (وأرجو أن تعذروا صراحتي) أجد أننا من أكثر الشعوب تعصبا لتاريخنا وجهلا بتاريخ الحضارات الأخرى.. ليس هذا فحسب بل يبدو أن طبيعتنا المحافظة وتقوقعنا داخل شرنقة الخصوصية والتاريخ أثرت حتى على طريقة كتابتنا وتدريسنا للتاريخ ذاته... فمشكلة التاريخ لدينا أنه لا يكتب كما حدث بل كما نرغب بحدوثه .. فنحن نميل (سواء في كتابته أو تدريسه) إلى الانتقائية والتهذيب واختيار ما يوافق مزاجنا الثقافي، حتى تحول الأمر إلى سياسة تعليمية وقرارات رسمية.. فالتاريخ الذي يدرسه طلابنا يكاد ينحصر مثلا في نطاقنا المحلي والإسلامي ويتجاهل حضارات أجنبية أخرى ساهمت في مجمل الإرث الإنساني.. فكم شخصا منكم مثلا يعرف (أي اسم) للأسر الفرعونية التي حكمت مصر منذ خمسة آلاف عام؟ .. وكم شخصا يعرف تاريخ المغول المسلمين الذين حكموا الهند وبنوا تاج محل؟ .. وكم شخصا سمع بإنجازات حضارة المايا أو الأزتك في أمريكا الجنوبية!؟ .. ومن سمع بالامبراطور تشانج الذي وحد الصين قبل 4 آلاف عام وأطلق عليها اسمه!؟ .. (ولِم نذهب بعيدا؟) كم شخصا حولك يعرف كيف ظهرت قطر، أو توحدت الإمارات، أو أن دبي تأسست بعد انشقاق 800 شخص من قبيلة بني ياس في أبوظبي واستقرارهم عام 1833 في منطقة الخور بقيادة آل مكتوم...!! ... والأسوأ من جهلنا بتاريخ الشعوب والحضارات الأخرى أن التاريخ (الذي اخترنا تدريسه لطلابنا) يمتلئ بحروب وغزوات ومجازر لاتنتهي.. ففي حين نعيب على المستشرقين ادعاءهم بأن الاسلام "انتشر بحد السيف" ننسى أننا (نحن) من كتب تاريخنا بهذا الشكل وبلور حوله هذا الادعاء. فمناهج التاريخ في المراحل الابتدائية مثلا تركز على غزوات الرسول وتتجاهل أن معظم القبائل استجابت لدعوته طواعية بعد مراسلته لها . ورغم أن معظم الشعوب دخلت الإسلام بعد وفاته عن قناعة وإيمان، تجاهلنا هذه الحقيقة وكتبنا تاريخنا بطريقة توحي لصغار السن بحدوث ذلك بقوة السيف والموت فقط في أرض المعركة .. ولكن الحقيقة هي أننا فتحنا أسبانيا بقوة السيف وبقينا فيها ثمانية قرون، واحتل العثمانيون شرق أوروبا وبقوا فيها لفترة مماثلة، ومع هذا لم تتحول تلك الشعوب للإسلام .. وفي المقابل دخل الاسلام منذ البداية إلى المدينة واليمن بفضل دعوة سلمية حملها مصعب ومعاذ، ثم انتشر في أفريقيا السوداء وشرق الهند بفضل الدعاة المخلصين .. أما شعوب الملايو (في ماليزيا وجنوب الفيلبين وأندونيسيا) فدخلت الاسلام طواعية بفضل القدوة الصالحة التي مثلها التجار العرب.. ونحن بلا شك نسيء لتاريخنا وديننا حين نتجاهل هذه الحقيقة ونعلم طلابنا بأنه انتشر بسبب الفتوحات والغزو المباشر .. وحين نوحي لأبنائنا بأن الحروب والغزوات وراء كل مجد، وأصل كل حضارة، نخاطر بظهور خوارج يسعون لتطبيق هذا التوجه العنيف بين ظهرانينا !! ...وفي المقابل، حين نراجع كتب التاريخ في الدول الأخرى نجد توازنا أكبر بين مختلف الأحداث والمظاهر والانجازات الحضارية .. بل لاحظت شخصيا أن مناهج التاريخ في ألمانيا والسويد تتخذ موقفا مناهضا من الحروب وتركز على الإنجازات العلمية والكشوفات الأثرية والحملات الجغرافية (بصرف النظر عن جنسيتها) لترسيخ حب العلم والمغامرة في قلوب الناشئة!! وما أتمناه فعلا هو أن تعاد صياغة مناهجنا التاريخية بتوازن أكبر ونظرة أشمل ومساحة تشمل الحاضر القريب كما شملت الماضي البعيد .. ليس هذا فحسب؛ بل يجب أن تتسع لتشمل الحضارات الأجنبية الأخرى وتؤكد على أننا لا نعيش وحدنا على هذا الكوكب (إذ لا يعقل طلب العلم "ولو في الصين" قبل معرفة تأثير مبادئ كوفشيوس على الشخصية الصينية)!! أما محاولة تغييب الحضارات الأخرى، والتقوقع داخل تاريخ ضيق ومشذب ، فليس إلا غرور ثقافي، وخداع ذاتي، وتجهيل اختياري للأجيال القادمة !!