الاختلاف من طبيعة البشر؛ لاختلاف حظّهم من العلم، وقدرتهم على الفهم، وتنوع ميولهم، وتباين بيئاتهم، وقد ورد الاختلاف في المسائل الاجتهادية عن الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة المعتبرين، لكن اختلافهم تميز بأن أساسه فهم طبيعة الاختلاف، ورائده إصابة الحق والنصح للخلق، ومادته الحجة والبرهان من السنة والقرآن، وطريقته الرفق والحسنى، ونهايته الموافقة مع الأجر، أو عدمها مع التماس العذر، فاختلافهم لم يمنع ائتلافهم. فهذا يونس الصدفي يقول: «ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة»، ولم يكن الاختلاف عندهم سبباً في انتقاص المخالف، أو اتهامه والتعريض به، أو بغضه والتحامل عليه. الواجب أن الاختلاف لا ينقص أسباب الائتلاف بل يزيدها، ولا يقوض معالم الحرية بل يشيدها، غير أننا نرى في الساحة اليوم صوراً مناقضة، فبعضهم يريد الاحتكار، فلا صحة إلا لأقوالهم، ولا صواب إلا في اجتهادهم، ولا سداد إلا في آرائهم، وتجدهم يضيقون بكل من يخالفهم الرأي ولا تجد عندهم روح التسامح، ولا أدب الحوار، فتراهم إذا وردت مسألة وكان فيها اختلاف معهم ولو بسيطا احمرت وجوههم، وانتفخت أوداجهم، وعلت أصواتهم، وغلت قلوبهم، وأبدعوا في فنون المكيدة والتصيد والتربص، تارة باسم الإخلاص وهم أبعد ما يكونون عنه، وتارة باسم النظام وهم آخر من يحترمه، وتارة باسم النزاهة وهم أول من يدنسها، ويثورون ويزبدون كأنهم في ميدان معركة، لا في ميدان عمل أو مجلس مناقشة، وكأنما هم يحاربون الأعداء لا أنهم يحاورون الأصدقاء، بينما كان ابن قدامة صاحب المغني - أحد أوسع كتب الخلاف الفقهي - «لا يناظر أحداً إلا وهو مبتسم»، نعم لأنه محب مخلص لا مبغض متربص. رحم الله السلف، وغفر للخلف، ويسر لمن اختلف وأتلفت.