وهو -جحظة- شاعر ومغنٍ عباسي من الطبقة الثانية، كان يكسب كثيراً وينفق أكثر ولا يعرف التخطيط المالي أو الادخار للمستقبل كعادة كثير من الشعراء والفنانين.. وهو صاحب البيت المشهور: «لا ينفعُ البخل مع دنيا موليِّةٍ ولا يضر مع الإقبال إنفاق» وقد طبّق ما قال فأفلس آخر عمره.. ولعل الحكمة هي الاعتدال في حالتي الإدبار والإقبال، مع الميل إلى شدة التدبير اثناء تولي الدنيا، والتيسير الراشد أثناء إقبالها، فدوام الحال من المحال.. لقد كان شاعرنا هذا لا يعير اهتماماً للمستقبل فالوضع عنده (أبيض أو أسود) إن أقبلت الدنيا لم يضر أي إنفاق، وإن أدبرت لم ينفع أي تدبير، بينما واقع الحال متدرج الألوان والاحتياط للمستقبل أحزم وأحكم.. أفلس شاعرنا -رحمه الله- آخر عمره، وبدا كأنه رسم كاريكتيري معبر عن البؤس مع السخرية من نفسه ومن الناس.. لقد رسم جحظة الكاريكاتير هذا بعمله وقوله.. أي بتصرفاته السابقة ثم صوره شعراً حين أصبح مُسناً هزيلاً كالهيكل العظمي لسوء التغذية وسوء الرعاية الصحية، وكان يركب على حمار من ضرير ضعيف، كسير، وهو -جحظة- رث الملبس والهيكل، وقد شعر بذلك قبل غيره فقال يصور سوء الحال: «تعجَّبت إذ رأتني فوق مكسور من الحمير عقير الظهير مقرور فقلتُ لا تعجبي مني ومن زمن أخنى عليَّ بتضييق وتقتير بل فاعجبي من كلابٍ قد خدمتهم سبعين عاماً بأشعاري وطنبوري» والمسكين عاش في عصر لا تأمينات اجتماعية فيه ولا ضمان، وكان سابقاً يعيش على المديح وضرب الطنبور وبعض الأغاني في قصور الوجهاء.. وحين أسنَّ ووهن منه العظم زهدوا فيه، وعجز هو عما كان يقوم به، فاستهلك القليل الباقي لديه، ثم بات على الحديدة حتى إنه اضطر أن يرهن كتبه مقابل (وجبة) وهو رهن انتهى بمصادرة تلك الكتب لعجزه عن التسديد.. وفي ذلك يقول: «حسبي ضجرت من الأدب ورأيته سبب العطبِ وهجرتُ إعراب الكلامِ وما حفظت من الخُطب ورهنتُ ديوان النقائضِ واسترحتُ من التعب»! (افتقار أشهر مؤلف) وهو أبوالفرج الأصبهاني مؤلف أشهر كتاب أدبي على الاطلاق، وهو كتاب (الأغاني) الذي لا يزال أهم مصادر الأدب العربي.. لقد أغناه هذا الكتاب في بداية الأمر، وأغنى عشاق الأدب عن حمل مئات الكتب، فإذا رحلوا اكتفوا بنقل كتاب الأغاني فكل الصيد في جوف الفراء.. وفي زمن لم تكن فيه الحقوق الفكرية محفوظة، ولا للرواد تقدير ومخصصات كافية تحفظ كرامتهم على الأقل، افتقر مؤلف الأغاني وقد وهن عظمه واشتعل الرأس شيبا، واضطر أخيراً لبيع داره، والعرب تقول (الدار أول ما يشرى وآخر ما يُباع) ولكنه -مثل جحظة- وصل للآخر.. وفي ذلك يقول: «الحمد لله على ما أرى من ضيعتي ما بين هذا الورى صيّرني الدهرُ إلى حالةٍ يعدم فيها الضيف عندي القِرى بُدِّلت من بعد الغنى حاجة إلى كلاب يلبسون الفرا..! أصبح أدم السوق لي مأكلاً وبات خبز البيت خبز الشِّرا وبعد ملكي منزلاً عامراً سكنت بيتاً من بيوت الكرى فكيف ألفى لاهيا ضاحكاً وكيف أحظى بلذيذ الكرى؟!