وأخيراً هدأت العاصفة وانتهت الضجة التي أثيرت عندما ارتفعت أسعار الأرز لأسباب أهمها ارتفاع أسعار النفط، وارتفاع نسبة التضخم، ولكن بعد تراجع أسعار النفط وانحسار التضخم بسبب الكساد الذي ضرب الاقتصاد العالمي وحاجة الدول المصدرة للأرز للعملات الصعبة عادت أسعار الأرز إلى الانخفاض إلى أقل مما كانت عليه قبل الأزمة، ولم نعد نسمع عن مشاريع زراعة الأرز في أفريقيا وأندونيسيا بالمليارات، وقد انخفضت جميع أسعار المواد الغذائية كما نشر في الصحف المحلية إلى أكثر من أربعين بالمائة في جميع دول العالم بينما لم تنخفض في بلادنا إلا في حدود عشرين بالمائة، كما أن أسعار السكر قد انخفضت ( 100 دولار ) للطن الواحد بينما تأثيرها محلياً خلال شهرين ( الوطن 17/03/1431ه ) ولم تحرك وزارة التجارة ساكناً . ومن الملفت أننا أولينا الأرز كل هذا الاهتمام بينما لم نعط القمح نفس الاهتمام مع أنه من الملاحظ الآن تحول الكثير من الشباب إلى الوجبات السريعة والتي يتكون أغلبها من القمح، كما أن الرغيف أصبح جزءاً مهماً من وجباتنا اليومية . ونشاهد الآن نشاطاً محموماً لزراعة القمح خارج البلاد وقد وقع الاختيار على دول شرق أفريقيا التي ليس لها منافذ بحرية والبنية التحتية بها بدائية وأغلب الأراضي تملكها القبائل وتعتبرها مراعٍ لمواشيها، كما أن أغلب المثقفين في تلك البلاد يعتبرون الاستثمار الزراعي في بلادهم هو نهب لأراضيهم واستعمار جديد ( ملحق الرياض 16/01/1430ه ) وآخر صيحة أطلقها مسئول دولي كبير في مدينة جدة هو رئيس الصندوق الدولي للتنمية الزراعية ( إيفاد ) قال فيها : ( استثمارات الأجانب الزراعية بالخارج مهددة بالغضب الشعبي ) ( اليوم 02/03/1431ه ) كما ألغت حكومة مدغشقر عقداً بمليارات الدولارات مع شركة دايو الكورية للاستثمار الزراعي تحت ضغوط شعبية قوية، كما أن أغلب هذه الدول تفتقر إلى الاستقرار السياسي ثم كيف تسمح لكم هذه الدول بتصدير القمح وشعوبها تتضور جوعاً ؟ حيث بلغ عدد الجوعى ( 265 ) مليون شخص في أفريقيا حسب تصريح الأمين العام للأمم المتحدة ( الرياض 22/02/1431ه ) كما أن درجة الحرارة مرتفعة على مدار السنة والرطوبة عالية جداً . إن الاستثمار الزراعي خارج البلاد هو مجرد كلام وأوهام ولم نسمع ما يثبت نجاح تجربة زراعية واحدة مع أن كثيراً من رجال الأعمال السعوديين استثمروا في أفريقيا وتكبدوا خسائر فادحة وليتهم ينشرون تجاربهم لنأخذ منها العبرة قبل أن نورط بلادنا باستثمارات فاشلة . وحيث إنه قد تم اعتماد عشرين بليون ريال ل ( الصندوق السعودي لتنمية الصادرات ) وثلاثة بلايين ل ( الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني ) كما أن رئيس اللجنة الزراعية بالغرفة التجارية يطالب بتعويض مزارعي القمح بعشرة بلايين، الجميع ثلاثة وثلاثين بليون ريال ( اللهم زد وبارك ) كل هذه المبالغ الفلكية من أجل حرمان المزارعين السعوديين من زراعة القمح ونقله إلى مجاهل أفريقيا في مشاريع محفوفة بالمخاطر وغير مأمونة العواقب ، إن زراعة القمح ليست زراعة فقط بل يعيش من ورائها آلاف الأسر التي تعتمد في دخلها ولقمة عيشها على زراعة القمح، كما يعتمد عليها قطاع كبير من مربي الماشية الذين يشكلون نسبة كبيرة من المواطنين والذين يمتهنون تربية المواشي في جميع أنحاء البلاد ويزودون السوق بأفضل أنواع اللحوم التي يفضلها المواطنون على غيرها من المستورد، ومع الأسف أن مسئولاً كبيراً في وزارة الزراعة قد صرح بأن استيراد المواشي أفضل من تربيتها محلياً ( عكاظ 13/03/1430ه ) بينما يسمحون باستيراد أغنام مصابة بالأمراض ( جريدة الرياض 15/02/1431ه ) . إن الكثير من الدول تعاني مشاكل مياه ومع ذلك يزرعون القمح لأن القمح يا أخواني سلعة استراتيجية تمس الأمن الغذائي والقومي ولا يمكن أن نجعلها مرهونة بتقلبات مناخية وسياسية أو رغبات وأهواء شخصية ، وقد نشرت الصحف أن الغرفة التجارية أنشأت ورشة للاستفادة من مبلغ العشرين بليون ريال وهذا ليس من أجل سواد عيون المواطنين وتوفير الغذاء لهم بل من أجل أن يكون لهم نصيب الأسد والاستحواذ على أكبر مبلغ من ( كعكة ) القروض مع أننا لم نسمع أن الغرفة التجارية قد عاقبت أحد منتسبيها الذين يخالفون التعليمات ويرفعون الأسعار ويطففون المكاييل والموازين، ولم نسمع أنها تبرأت من الذين يغشون في بضائعهم وهم كثر، وحتى الأدوية لم تسلم من الغش مع العلم بأن اللجنة الزراعية في الغرفة لا تمثل المزارعين فأعضاؤها من تجار المعدات الزراعية وليسوا مزارعين ، فالمزارع هو الذي يمارس الزراعة بنفسه وهي مصدر دخله الوحيد، وأول قرض من هذا المبلغ كان من نصيب بعض الأثرياء من منسوبي الغرفة وقدره مائة مليون ريال وقد استثمر جزء منه في شراء مزرعة في أقصى جنوب مصر لأحد أعضاء هذه المجموعة بعد أن كبدته خسائر ويئس منها وزرعوا جزءاًَ منها قمحاً ونشاهد في الصورة ( صحيفة الاقتصادية 15/05/1430ه ) أعضاء هذا الفريق يقفون أمام أحد هذه الرشاشات المحورية وقد نضجت سنابل القمح وتبدو ( متقزمة ) تحيط بها الحشائش وقد حشدوا عدداً كبيراً من مصوري الصحف ومصوري التلفزيون ( وكأنهم قد حلّو مشكلة الغذاء في العالم ) مع أن إنتاج هذا الرشاش لا يعادل ربع إنتاج مثيله في مزارع حائل أو الجوف، وهل من المعقول أن تسمح مصر بتصدير القمح المنتج على أرضها وهي تستورد سبعة ملايين طن سنوياً ؟ والسؤال هل تم فعلاً توريد هذه الكمية من القمح إلى صوامع الغلال ؟ وبأي ثمن ؟ وفي المقابل بدأ أكبر المستثمرين في منطقة ( التوشكي ) من السعوديين يعيد حساباته ويضعف نشاطه ( الأهرام 03/08/2008 ) لأن مصدر المياه بالتوشكي يعتمد على ارتفاع الماء في بحيرة السد أثناء فيضان نهر النيل وعند حصول الجفاف فإنه يتم اللجوء إلى المضخات وهذا يسبب الكثير من المشاكل إضافة إلى ضعف خصوبة التربة في هذه المنطقة لذلك نلاحظ عزوف المزارعين المصريين عن الزراعة في هذه المنطقة . إن تحت يدي الآن مجموعة كبيرة من المقالات التي نشرت في الصحف المحلية للكثير من الكتاب من المثقفين وأساتذة الجامعات من أهل الخبرة والتخصص يشككون في نجاح الزراعة في الخارج ويرون أنه لا يجب التفريط في الزراعة داخلياً ولا يقام لرأيهم وزناً لدى مسئولي وزارة المياه . إنه لخسارة كبيرة للاقتصاد أن يستثمر هذا المبلغ الكبير خارج البلاد مقابل أن يفقد آلاف المواطنين لمصدر رزقهم وتعطيل آلاف العاملين الذين يتعاملون مع مزارعي القمح، مثل أصحاب الحراثات، والذرايات، والحصادات، وبائعي الأسمدة والمبيدات والبذور، وأصحاب سيارات نقل القمح، ومصانع الرشاشات المحورية، ومصانع مضخات المياه التي أنفق عليها مئات الملايين، أليس من الأجدى لو اعتمدنا جزءاً قليلاً من هذا المبلغ الكبير لإنشاء مركز للبحوث متخصص في استنباط أحدث التقنيات في وسائل الري الحديثة لتوفير أكبر كمية ممكنة من المياه، واختيار أفضل البذور ذات الإنتاجية العالية والمقاومة للأمراض، واختيار الأسمدة ذات الكفاءة العالية وتوجيه المزارعين لاستعمالها بالطرق العلمية المناسبة، والاستعانة بخبرات جامعة الملك عبدالله وبعض البلاد التي لها باع كبير في هذا المجال مثل اليابان والهند ومصر، والاستفادة من تقنية ( النانو ) الحديثة وصرف هذا المبلغ الضخم على تنمية الزراعة في الداخل وتحديداً في المناطق التي لا تزال تتوفر فيها المياه بغزارة وبنوعية لا تصلح إلا للزراعة كمنطقة يبرين وحائل والجوف وذلك لتأمين الغذاء الصحي للمواطن من القمح النظيف الخالي من الإضافات الكيماوية والمبيدات السامة والهندسة الوراثية التي ثبت علمياً أنها من الأسباب الرئيسية لأمراض السرطان بالإضافة إلى الأمراض النفسية التي تؤدي للجنون ، فأمن الوطن الغذائي يستحق أن نضحي من أجله بالغالي والنفيس مع أن القمح محصول شتوي وعمره لا يتجاوز أربعة أشهر وإذا أفاء الله على عباده بالغيث فإنه لا يحتاج إلا إلى القليل من الماء . وبالمناسبة أتوجه لمعالي وزير الزراعة بسؤال : لماذا لا نبدأ من الآن بتخزين كمية كبيرة من بذور القمح بصوامع خاصة وبالتحديد الأنواع الوطنية مثل اللقيمي والصمّا وغيرها من الأنواع الأخرى التي يمكن زراعتها لعدة أجيال زراعية للعودة إليها عند الحاجة لزراعة القمح مرة أخرى؛ لأن البذور التي تنتجها شركات البذور ومن أكبرها شركة ( مونساتو ) وشركة ( كارجيل ) الأمريكية هي بذور عقيمة لا تصلح إلا لمرة واحدة وذلك من أجل احتكار إنتاج البذور وبالتالي الهيمنة والاستحواذ على سوق الغذاء العالمي ، وهذا ينسحب على بذور الخضار والتي تكلفنا البذرة الواحدة منها أكثر من خمسين هللة ونستورد منها بالمليارات سنوياً كما أننا لم نعد نسمع شيئاً عن شركة البذور التي أسست لهذا الغرض وكنا نعلق عليها آمالاً كبيرة وهل هي لا زالت على قيد الحياة ؟ وقد كنا فيما مضى نحتفظ بكميات من البذور من إنتاج الموسم الحالي من القمح والخضار والبرسيم لزراعتها في موسم قادم وكنا مكتفين ذاتياً ولا نحتاج إلى استيراد بذور . أنا واثق أن أغلب المسئولين المتحمسين لمنع زراعة القمح لم يشهدوا ما حصل عندما أغلقت الملاحة في قناة السويس بعد الاعتداء الثلاثي الآثم على مصر عام 1956م حيث اضطر الناس إلى شراء الدقيق المسوس بأسعار مرتفعة وكنا نأكل الخبز بسوسه لعدم وجود بدائل له فماذا سنفعل لو لا سمح الله أغلقت القناة لأي سبب من الأسباب في ظل هذه الظروف المضطربة ؟ وقد أصبح مضيق باب المندب تحت سيطرة القراصنة دون أن يتمكن أحد من التصدي لهم كما أننا نسمع الآن تهديداً بإغلاق مضيق هرمز . إن أي قرارات كانت هي ليست قرآناً منزلاً لا يجري عليها أي تعديل، وهي ليست بالضرورة صادرة عن قناعات من الجهات التي أصدرتها إنما هي مبنية على تقارير ودراسات من فنيين تنقصهم الخبرة ولا تتعدى أنظارهم أصابع أقدامهم لذلك فليس من العيب الرجوع عن تلك القرارات إذا ما رؤي أن ذلك يخدم المصلحة العليا للموطن، وحتى بعض دول الخليج ( على الرغم من ضعف إمكانياتها الزراعية ) بدأت تعيد النظر في الاستثمار الزراعي في الخارج وتبحث عن تقنيات يمكن أن تعزز إمكانياتها للإنتاج الزراعي الوطني ( الإقتصادية 21/02/1431ه ) فيا أخواني ازرعوا ما شئتم في أفريقيا إلاّ القمح . ثم لماذا هذا الاهتمام بالمحافظة على المياه من معالي وزير المياه لم يشمل مياه الصرف الصحي في جميع مناطق المملكة والتي تذهب هدراً ومنذ أكثر من ثلاثين سنة وهي تراوح مكانها ولم يتم حتى الآن عمل أي إجراء لمعالجتها وتوجيهها إلى الاستعمال الزراعي وكل ما نسمعه هو مجرد كلام، ومن أراد أن يتثبت من ذلك فليذهب إلى بلدة الحائر ثم ينحدر قليلاً إلى وادي حنيفة ليرى هذا النهر الهادر من المياه مع أن أغلب هذه المياه ليست من مياه الصرف الصحي، فلماذا لا يتكرم معاليه ويأمر بالبدء فوراً بمد أنبوب ضخم يمكن أن يستوعب كل التوسعات التي ستحصل خلال الخمسين سنة القادمة ويمتد عبر وادي حنيفة والذي تنحدر المياه فيه إنحداراً طبيعياً دون الحاجة إلى مضخات وهذه ميزة توفر لنا مئات الملايين ثم تنضم إليها مياه محطة السلي ومحطة الخرج حيث ستكون نهراً لو تم تنفيذه سيغطي منطقة الخرج والسهباء والتوضحية وتحويلها إلى أعظم منطقة زراعية في الشرق الأوسط تسد أغلب حاجة المملكة من القمح والأعلاف، وإذ كنا نعذرك يا معالي الوزير فيما يتعلق بمياه الصرف في وادي حنيفة حيث إن المشكلة سبقت وجودك في الوزارة فماذا نقول في مشروع محطة السلي والذي أنشئ في عهدكم وبدلاً من أن يحول الفائض منه فوراً إلى المزارعين للاستفادة منه في الزراعة عمل له مجرى اسمنتي يصب في وادي حنيفة ( شرق محطة تحويل الكهرباء في الخرج ) لتتكرر نفس الحالة التي شرق الحائر وتذهب المياه هدراً وتسبب الأضرار الصحية للمواطنين؛ مما يعني أنه ليس هناك حتى الآن نية لدى الوزارة للاستفادة من هذه المياه على المدى القريب لذلك كل ما تم هو عبارة عن ( جعجعة ولا نرى طحناً )، لقد وفرت لكم القيادة الرشيدة الإمكانيات المادية وطلب منكم خادم الحرمين الشريفين في خطاب الميزانية سرعة تنفيذ المشاريع ولذلك ليس لكم بعد هذا أي عذر فهل أنتم فاعلون عسى أن يتحقق ذلك .