لا شك أن العلاقة التي تربط بين العلم والإيمان وجوداً أو عدماً قضية عالجها الكثيرون قبلي وسوف يعالجها الكثيرون من بعدي وليس لدي أدنى شك في أن ما أكتب لن يكون القول الفصل في هذه القضية الشائكة، ومع ذلك فقد رأيت أن أدلي بدلوي تلمساً للفائدة. والسبب الذي جعلني أكتب في هذا الموضوع انه كلما دعيت للحديث عن العلم وآخر المكتشفات العلمية يتكرر طرح السؤال علي حول العلاقة بين العلم والإيمان ومتى يصل العلم إلى الدرجة التي يوفر فيها الدليل القطعي على وجود الخالق مثلاً أو أي من حقائق الإيمان الأساسية الأخرى. ومع أني أشعر أن إجابتي على مثل هذه الأسئلة كانت تأتي مخيبة لآمال البعض، إلا أن أهمية الموضوع هي التي تدفعني لإعطاء الإجابة الواضحة من دون النظر إلى موقف السائل. كما وأني لأرجو أن ما أكتب سوف يكون حافزاً لمن هم أدرى مني بهذا الموضوع المهم للإدلاء بدلوهم وتصويب ما قد يبدر مني من خطأ، والله الموفق للصواب وهو ولي التوفيق. وفي رأيي أن الإجابة غير المباشرة على هذا التساؤل تكمن في معرفة الفروق الأساسية بين حقائق الإيمان ونتائج العلم البشري, والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية: أولاً: العلم البشري هو عبارة عن دراسة الجزئيات التي يمكن للباحث الإحاطة بها إحاطة تامة أو شبه تامة لإخضاعها للبحث والدراسة، فبدون هذه الإحاطة لا يمكن للباحث أن يدرس القضية من خلال قياس الظاهرة على الطبيعة أو إجراء التجارب والتحاليل المختبرية. أما الإيمان فهو يتعلق بالكليات التي لا يمكن أن تدخل في دائرة التجارب أو القياس بالأدوات. ومع ذلك فقد تلتقي كليات الإيمان وجزئيات العلم وهذه قد تحدث في أحيان قليلة جداً، أو إن شئت فقل النادرة، فلن يتعارض نص قطعي الدلالة والثبوت مع حقيقة علمية ثابتة. ثانياً: العلم البشري يستمد مادته من تفاعل الحواس البشرية مع الظواهر الطبيعية، والعلم بذلك محدود محدودية الحواس الإنسانية والتي من أقواها حاسة البصر، إذ على سبيل المثال عندما ننظر في الكون الواسع فإننا نعتمد على الضوء الذي ينقل لنا المعلومات عن الكون فالشمس نستدل على وجودها من خلال أشعة الضوء التي تأتي منها. هذا الضوء مع سرعته الهائلة التي يستطيع أن يدور بها حول الأرض سبع مرات في الثانية الواحدة، إلا أنه بطيء مقارنة مع بعد المسافات الكونية الشاسعة. فمثلا يستغرق الضوء أكثر من ثماني دقائق ليصلنا من الشمس. لكن مركز مجرة "درب التبانة" أبعد قليلا إذ يبعد عنا ثلاثين ألف سنة ضوئية أي بمعنى أنه لو حدث شيء في مركز المجرة هذه اللحظة لن نعرف به إلا بعد ثلاثين ألف سنة. هذا بالنسبة لمجرتنا، أما إذا أردنا أن ندرس أقرب المجرات لنا فحينها نتحدث عن ملايين السنين الضوئية. هذه الأرقام تعني أننا كلما نظرنا بعيدا في الكون كلما ابتعدنا في الماضي، أي أننا في حقيقة الأمر عندما ننظر في السماء فإننا لا ننظر إلى حاضر الكون بل إلى ماضيه السحيق لأن الحاضر محجوب عنا بسبب سرعة الضوء المحدودة، وبذلك تكون الصورة الحالية للكون من الغيب الذي لا نعلمه. ثالثاً: العلم البشري يتعلق بدراسة الماديات التي نراها ونحس بها وليس بإمكاننا أن ندرس شيئاً أخر لا نراه أو نحس به. فمثلاً هذه الجسيمات الصغيرة التي لا ترى ولو بأدق الأجهزة يستدل على وجودها استدلالاً من خلال آثارها غير المباشرة وكذلك الأمر بالنسبة للثقوب السوداء التي تمتص الضوء فلا يمكن مشاهدتها وإنما يستدل على وجودها من ملاحظة آثار قوة جاذبيتها الكبيرة على ما حولها من أجرام. والمشكل هنا أن الماديات التي يمكن أن نحس بها في الكون لا تشكل شيئاً كبيراً في الوجود، ذلك إن أحدث النظريات العلمية حول تركيب الكون تُقدر أن المادة لا تشكل إلا أربعة بالمائة من الكون في حين تشكل المادة غير المرئية أكثر من عشرين بالمائة من الكون، أما البقية العظمى من الكون أي ما يزيد عن السبعين في المائة فهي عبارة عن قوى غير مرئية نعلم بوجودها من خلال ملاحظة آثارها على الكون مثل عملية توسع الكون بسرعة متسارعة. وهذه النظرية إن دلت على شيء فإنما تدل على تهافت ما يسمى بالنظريات المادية التي بنيت على معرفة قاصرة بشيء قليل جداً في الوجود. رابعاً: العلم البشري يمتاز بالتغير بحسب المعطيات العلمية التي تتغير مع تطور أدوات وأجهزة البحث العلمي ومنها تطور العلوم الرياضية المناسبة. فعلى سبيل المثال كان الاعتقاد السائد عند العلماء بأن الأرض هي مركز الكون حتى جاء غاليليو وأثبت بالدليل العلمي آنذاك أن الشمس هي مركز الكون وهذه النظرية ظلت سائدة حتى زمن قريب وإلى أن تطورت أجهزة الرصد الفلكي لتثبت أن الكون أوسع بكثير من المجموعة الشمسية وأصبح الاعتقاد بأن مجرتنا درب التبانة هي الكون إلى أن جاء علماء الفلك في أوائل القرن الماضي ومنهم "هابل" ليثبتوا أن المجرة التي نحن فيها هي جزء صغير متناهٍ في الصغر في هذا الكون الواسع. ومع هذا نقول إنه ليس من الخطأ الاعتقاد بأن العلم البشري يتطور فهذه حقيقة يجب أن نتعايش معها وهي لا تنقص من قدره، لكن الخطأ هو بناء التصورات والمعتقدات على ما نظن أنه حقائق علمية ثابتة في وقت من الأوقات وهي ليست كذلك بغض النظر عن قوة حجج القائلين بها. من أجل ذلك كان موقف الكنيسة بتبني الاعتقاد بمركزية الأرض وجعلها قيمة إيمانية وهي ليست كذلك خطأ فادح قدح في مصداقيتها إلى يومنا هذا. ومثيل ذلك فإن البعض من علماء المسلمين يجعل الحوار العلمي حول بعض النظريات العلمية حواراً عقائدياً وهو ليس كذلك وإنما هي نظريات علمية قابلة للخطأ أو الصواب نقبل منها ما قام عليه الدليل ونرفض في ذات الوقت كل التفاسير التي تعطي النظريات العلمية أبعاداً اجتماعية وخلقية خارج طبيعتها العلمية. إن الموقف الرافض لأية نظرية علمية مهما كانت طبيعتها على أسس عقائدية مخطئ تماماً ولأنه يهدر فوائد كبيرة يمكن أن يجنيها الإنسان المؤمن من نتائج المعرفة البشرية التي لن تنفك تؤتي ثمارها وتفتح آفاقا للتفكير والتدبر والتطبيق العملي. إن الانغلاق على النتائج العلمية لا يمت إلى الإسلام بصلة وهو نتاج عصور التخلف التي مرت بها الأمة. ويقف على الجانب الآخر فريق من المتحمسين يحاول التوسع في الربط بين نتائج العلوم البشرية ومفاهيم الآيات القرانية واعتبار ذلك إعجازاً قرآنياً. إن الاستفادة من العلوم في توسيع الفهم في الآيات ومحاولة سبر أغوار معانيها أمر محمود وهو من قبيل التدبر المطلوب، ولكن الجزم بمثل هذه المعاني المبنية على أسس التجريب العلمي تحمل في ذاتها خطورة التغير المستمر في نتائج البحوث العلمية التي لا تكاد تستقر على حال. إن الاعتقاد بأن النظريات العلمية مهما كانت درجات صحتها هي حقائق كونية، أمر يجب أن يؤخذ بشيء من الحذر ذلك لأن الكون أكبر من أن نحيط بكل جوانبه وظواهره. فالنظرية التي تنجح في تفسير ظاهرة أو عدد من الظواهر الكونية التي نعرفها، قد نكتشف بعد حين أنها لا تستطيع تفسير ظواهر شبيهة. ولعل نظرية الجاذبية التي وضعها العالم الفيزيائي الفذ إسحاق نيوتن خير دليل على ما نقول، وهي النظرية التي تقول إن أي جسمين في الكون يتجاذبان بقوة تتناسب مع كتلتيهما وعكسيا مع مربع المسافة بينهما. كانت هذه النظرية من أقوى النظريات العلمية التي طُوِّرت لأنها استطاعت وفي فترة زمنية قصيرة تفسير ظواهر كونية عديدة مثل سبب سقوط التفاحة من الشجرة باتجاه الأرض إلى ما هو أكبر من ذلك بكثير كتحديد شكل وطبيعة مسارات الكواكب حول الشمس ولذلك تحولت صياغتها الرياضية إلى قانون وأصبحت تسمى قانون الجاذبية. ولكن هذه النظرية التي نظر إليها العديد من العلماء على أنها من المسلمات الكونية لم تنجح في تفسير قضية حيرت علماء الفلك وهي مدار الكوكب "عطارد" أقرب الكواكب إلى الشمس، ووضع العلماء فرضيات كثيرة لمحاولة التوفيق بين مدار الكوكب ونظرية الجاذبية حتى جاء العالم الكبير آينشتاين الذي طور نظرية النسبية التي فسرت الظاهرة وأثبتت أن نظرية نيوتن, مع قدرتها على تفسير العديد من الظواهر، إلا أنها بقيت محدودة وذلك لعجزها عن تفسير ظاهرة انحناء أشعة الضوء بسبب جاذبية الشمس. هذه القضايا، ومثلها كثير، تدلل على أن ميدان العلم غير ميدان الإيمان ولذلك فلا يمكن أن نتصور أن يحل العلم مهما تقدم محل الوحي والإيمان بالغيب، كما أن المعلومات العلمية مهما كانت طبيعتها لن تصل إلى الغيب. لكن ذلك يجب ألا يحول بين النفس المؤمنة والشعور بلذة التدبر في الكون والمخلوقات صغيرها وكبيرها التي هي آيات تقرب الإنسان من ربه وتعرفه بخالقه. كما ويجب ألا ننسى أنه في نفس الوقت فقد تجد النفس الجاحدة نفس المعلومات وتنظر إلى نفس النتائج وتستنبط منها أفكاراً مغايرة تماما مثلها مثل التدبر في الآيات القرآنية التي تزيد المؤمنين إيماناً وتزيد الجاحدين جحوداً "وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الّذينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُون" (التوبة 124-125). فالمؤمن يرى القدرة الربانية في كل شيء حوله، في جمال الورود وألوانها وتذكره بقيمة الجمال في الخلق فيتذكر بأن الله الذي أحسن كل شيء خلقه. وينظر إلى السماء ويتدبر عظمة الكون وإلى النجوم التي تعد بالترليونات والى المجرات التي تعد بالمليارات ويرى فيها عظمة الخالق وقدرته، وأيضا عندما يدرك صغر الأرض وكونها لا تزيد عن أن تكون مثل ذرة الغبار المعلقة بفضاء الله الواسع يزداد زهداً في الحياة وما فيها ويزداد رغبة فيما عند الله. "إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذابَ النَّارِ" (آل عمران 190- 191). *سفير جمهورية العراق في الرياض