في النصف الأول من التسعينيات من القرن الماضي التقيت طالبا سعوديا في مدينة أيوا الأمريكية. في تلك الفترة ماتت البعثات وتضخمت الجامعات السعودية بالأقسام التي لا يحتاجها سوى العصر الوسيط. كان شبه وحيد. بعد عدة أيام من اللقاءات المختلفة اكتشفت أن الشاب في غاية التمدن. يعرف بالضبط ما يريد. كان المستقبل واضحا أمامه. إنجليزيته قوية وتعامله مع الأمريكان يتسم بالندية والثقة بالنفس. قال بعد أن سألته: الفضل بشكل كبير يعود إلى العائلة الأمريكية التي عشت معها قرابة عام كامل. الابتعاث حالة ثقافية حضارية أكثر منها حالة تعليمية. تخريج الأطباء مثل تخريج المهندسين مثل تخريج الضباط. مسألة مهنية صرفة. لكن أي مهنة لها بعدها الحضاري؟ إذا غاب هذا البعد غابت القيمة الصحيحة عن هذه المهنة. تلاحظون هذا عند بعض الأطباء السعوديين الذين تخرجوا في جامعات المملكة. أقرب إلى الدعاة منهم إلى المهنيين. تتمحور اهتماماتهم في القضايا الشكلية والأخلاقية. يخلطون بين المنهج العلمي والموروثات والخرافات. قد يكون الواحد منهم طبيبا جيدا ولكنه يعجز عن أن يكون مهنيا. اكتسب مهنة الطب ولكنه لم يكتسب الثقافة العلمية المساندة لها. الابتعاث نعمة. لكن الابتعاث لن يحقق مكاسبه الكاملة إلا إذا انتقل من مجرد تعليم مدرسي إلى تعليم ثقافي. التفكير في إعادة بناء الطالب ثقافيا. السكن عند أسرة أمريكية أو كندية أو غيرهما أهم بنود هذا البناء الثقافي. أكبر الضرر الذي أصاب الطلبة في الماضي يعود إلى التجمعات(الشللية) أو البعثات الدينية التي تزور الطلبة وتؤدلجهم. لا يلتقي الطالب السعودي آنذاك الآخر إلا على صعيد المتعة(مطعم) أو المصلحة العابرة(سوق) أو في قاعة الدرس. كان الآخر شبحا. عاد كثير من الطلبة السعوديين في السبعينيات والثمانينيات لا يجيدون اللغة الانجليزية. يحمل الخريج السعودي البكالوريوس من أمريكا بينما مستواه اللغوي لا يتجاوز طالب ثانوي مجتهدا. ثماني سنوات يقضيها في بلاد الأمريكان لا يتذكر منها إلا أغنيتين من أغاني الديسكو وبعض الأماكن الترفيهية وشلته من السعوديين. بعد سنتين من عودته تتلاشى تجربته الأمريكية. يعود كما ولدته أمه. شكوك كثيرة كانت تحوم حول بعض الخريجين من أمريكا. قرأت يوم أمس تحقيقا مهما في هذه الجريدة حول سكن المبتعثين السعوديين مع العائلات الكندية في كندا. لمحات تكشف لك عن أهمية هذا الجانب. جزء من التعليم في البلدان الغربية هو الاندماج مع المجتمعات المضيفة. الغرب ليس مجرد مدرسة يتعلم فيها الطالب ويعود بشهادة. الغرب حضارة. الشيء الذي نتحدث عنه باستمرار. الانضباط واحترام المواعيد واحترام الآخر والتنظيم والنظافة العامة وغيرها. سلوكيات لا تصل إلى الإنسان إلا إذا تعمد اكتسابها أو وجه إليها. يفترض أن يكون الاندماج جزءا من برنامج الابتعاث والتعلم. يبدأ هذا الاندماج من السكن عند أسرة أو داخل الجامعة، مع وضع حد للشلليات والتجمعات الانعزالية.