..لكل أمر بداية، ولكن نحن من نحدِّد النهاية. ..وضعتُ هذا الكتاب * تحت وقع دور الموسيقى والغناء في النفس البشرية وأثرها في مدار ثقافاتها وحضاراتها، وربما ظل إلحاح التتبع والترقب لهذا الأرشيف والذاكرة هو الدافع الخفيُّ-المعلن وراء إنجاز كل هذا. ..توجد الموسيقى الشعور لا تنعكس عن أي شي آخر. ..تجعلك فرحاً، وتزرع الحزن بقدر ما تطلق الحماس وتظلُّك بالعزاء.. ..منها ولها وضع هذا الكتاب. ..الفصل الأول منه مقدمة منفتحة لاكتمال لا ينتهي لرصد الريادات والعلامات لنساء غرسن حناجرهن في تراب وماء وهواء ونار الجزيرة العربية، وهي بمثابة مقدمة لإلهات الأرض، وهن نساؤنا من الأمهات إلى المحبوبات، ومن الأخوات إلى الفاتنات، فهي قراءة للنون. وهي ليست أية نون. فهي نون الحياة فينا في كل واحد وواحدة منا، وهو البحث الذي نشر مختصراً في دورية حقول، العدد: 5،2008. ..الفصل الثاني لم يأت عرضاً هكذا بل بدأت العمل في كتاب متسع عن فن السامري وتاريخه، وما كانت فرصة إقامة محاضرة في نادي حائل الأدبي عام 2009 إلا تحريضاً لاختبار مختصر عمَّا كتبت، ويشكِّل ورق هذه المحاضرة فصلاً اختص بفن السامري كونه أحد الفنون التي تحتل مناطق في وسط وشمال وشرق الجزيرة العربية. ..الفصل الثالث هو إتمام لمسيرة من شخصيات صناعة الأغنية في الجزيرة العربية منذ منتصف القرن العشرين، وإذا كانت تناولت تجربة تمثلها، وهي تجربة عبدالكريم عبدالقادر في كتاب سابق (سحارة الخليج: مقدمة ودراسات في شؤون غنائية، دار الفارابي 2006)، ومررت سريعاً على كل من تجربتي: سناء الخراز وهدى عبدالله، وهما من جيل لاحق للحداثة في غناء الجزيرة العربية، فإنني أعود إلى أسماء أخرى تركت ظلالاً لا تمحى وما زالت فاعلة رغم وفاة الأول طلال مداح واستمرار كل من رباب وخالد الشيخ وعارف الزياني. ..إن قراءة تجربة أي حنجرة هي قراءة لحقبة تجلت فيها ثقافات جيل أو مجتمع على مستويات اجتماعية وسياسية واقتصادية وإيديولوجية. ..تلك القراءة، لتجربة الحناجر، هي قراءة حضارية لتعبر عن وجوه التفاعل والتواصل بين المجتمعات البشرية، فما تملكه إلا ثقافاتها وتقاليدها لتفتح اتصالاتها المرئية والسمعية والمكتوبة والشبكية. ..يحاول الكتاب في تركيزه على شؤون الغناء في الجزيرة العربية من خلال مسيرة تغطي القرن العشرين بمقدِّمتين تخص كل واحدة غناء الرجل والمرأة، وما كان داعي الفصل بين النوعين إلا لأسباب بحثية صرفة كما هو مبرر أيضاً اختيار فن السامري هو طريق لإمكانية الانفتاح على فن الفجري أو فن المجرور أو فن الدان وسواها. ..وأما اختيار تجربة كل من طلال مداح ورباب وخالد الشيخ وعارف الزياني، فهو مقصود لنتائج تكشفها عن كل واحد منهما الدراسة الموضوعة عنه، وقد تحقق لي الكثير خلالهما على مستوى البحث والتأمل. ..برغم أن الأبحاث والدراسات والمقالات المختصة في حقل الأنثروبولوجيا الثقافية المتصاعد من فروع الفلسفة الكبرى ثم تفرعها من حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية إلا أن الخط الزمني دائري يلعب على خطين بقدر توازيهما وتعارضهما في الاتجاه إلا أنهما فرصة لتغطية أكبر مقدار من تاريخ الحناجر والتجارب عبر الأزمنة والأمكنة. *مقدمة كتاب "تغني الأرض: أرشيف النهضة وذاكرة الحداثة" يصدر عن النادي الأدبي بحائل مع الانتشار العربي ويتوفر في معرض الكتاب بالرياض.