قال لي :- سألت نفسي ذات مساء :- أين يسكن أخواني الآن ؟ ... تركت سؤالي جافاً على لساني ، وتوسدت مخدتي ، ونمت كما أنام كل مساء ، ولأول مرة أضع رأسي على مخدتي وأنام بسرعة .... قال :- لن أنتعل حذاء أبي ، ولن أسير على خطواته ، سأكون مختلفاً عن أبي ، سأجبل بشخصية جديدة ، رغم شهادة كل من حولي ، أو كل من يعرف أبي بأنني أشبه بأشياء كثيرة ، ولكني لن أستظل في ظلاله ، ولن أطبق الصمت على لساني ، سواء كنت أريد أمراً ما أن يكون أو لا يكون ، لن أكدس نفسي بالصبر ، ولن أنس أن آخذ من أبي صمت دمعته ، فالابن مهما فعل ، فلا بد أن يكتسب من أبيه شيئاً ، وأنا أخذت من أبي دموع الخفاء ، فمهما يكن ، لن ير أحد دمعتي سوى الظلام !!!.... لنقف سوياً دقائق .... ونتحدث عن أبيه ، كما عرفت صديقي .... مات أبوه ذات مساء في مدينة بعيدة عن مدينته، التي هاجر إليها منذ زمن ، من قرية لا تزال تحمل أسمها ولا تحمل صفاتها ، ترك أبناءه خلفه ، يكملون مسيرة الحياة ، كما علمهم ، وكما كان يعيش ، ولأول مرة أجد صديقي يخالف ما كان يريده أبوه ، كان على يقين ، بأنه على صواب في مخالفته لأبيه ، هكذا قال لي . مات أبوه في مدينة غريبة عنه ، لم يكن يعلم أبوه أنه سافر للموت ، وأن دمعة أبيه ستسافر أيضاً من عينه إلى خده ، دون أن يرها أبناؤه . قال لي :- حيت قرر أبي السفر فجأة هكذا دون مقدمات ، شعر بأن هناك شيئاً مختلفاً في شخصية أبي ، لم يبح به ، ولن يبوح به ، أوصلته للمطار ، ودعته ، رأيت دمعة تصارع الوجود بين أهدابه ، وكان يحاول جاهداً أن يخفيها عني، لم أنتظر من دمعته أن تسقط على خده ، تركته يحمل حقيبته الصغيرة ، ودمعته ، ويتجه نحو بوابة المغادرة .... سكت صديقي عن الكلام ، وكأن الكلام نفذ من إحساسه ، رفعت رأسي نحوه ، ووجدت في عينه دمعة تصارع أهدابه ، وكلاما كثيرا ، سقطت دمعته تحت نظري على خده ، وتعلقت أحرف كلماته على شفتيه وقتاً لم أحسبه، ثم أكمل :- سافر أبي مساءً ، بعدما ابتاع خروفاً في صباح سفره ، ليجعله وليمة غداء لذلك القادم من السفر ، ذبح الخروف بيده ، وأسقطه في قدر أمي .... وبعد صلاة الظهر ، كنت معه ، أراقب باب دارنا المفتوح ، وكانت عيناه تراقب معي باب دارنا ، لم يأت ذاك القادم من السفر ، وأوشك وقت صلاة العصر أن تدخل ، نظر إليّ أبي ، ومن ثم قام ورفع سماعة الهاتف، هاتفه .... لم أعلم ماذا قال له ذاك القادم من السفر ، كل ما كان لحظة إذ ، أن أبي سبق نظراتي إليه ، ومسح دمعته، قم قال لي :- دع أمك تحضر لنا الغداء ..... سألته :- ألن ننتظر القادم من السفر ؟!!!... لم أجد إجابة منه ، غاب عن مكاني وعن غداء أمي ، لم يمد يده إليه ، قام من مكانه بثقل ، ودخل غرفته... وبعد أكثر من ساعة ، خرج من غرفته ، وقال لي :- إني .... سأسافر هذا المساء .... وسافر أبي دون أن يتذوق طعم لحم الخروف !!!... سألت صديقي : من هو هذا القادم من السفر ؟ نطق صديقي صمتاً ، ألححت عليه السؤال ، فقال بعد تردد : لا أريد أن أقول اسمه ، فهو الآن على فراش المرض ، لا يعرف يمينه من شماله ، انه الآن يدفع ثمن قتل أبي ، وقتل الأخوة !!!.....