ما أصعب أن يكتب الإنسان عن الوطن ، فدائماً ما تتلعثم الكلمات حيث تتدفق المشاعر من القلب لتربك القلم وترهق القريحة .. وعندما يكون الوطن هو الأمل المنشود والأب الغائب والحضن الذي تحيا خارجه، يتلمسك الأمل في الدخول في دائرته ليستقر الأمن وتنعم بالاطمئنان، فيصبح التعبير عنه خلطاً من الحنين والوحشة والحب والشجن، لقد قدر للبعض العيش خارج أوطانهم ، وتعددت الأسباب والغربة واحدة، وبما أنني واحدة من هؤلاء فلي أن أقول إنه ليس في كل الأحوال ينأى الأبناء بوجدانهم عن أوطانهم البعيدة .. وللآباء في هذا دور كبير. تميزت حياة أبي بالترحال المستمر فرحل عن موطنه المملكة العربية السعودية إلى مصر لينهل من العلم في جامعاتها، ثم إلى المملكة ليكون من الذين تشرفوا بأن يأخذوا على عاتقهم غرس اللبنة الأولى للمنظومة التعليمية في المملكة ، ثم رحل إلى مصر مرة أخرى بسبب عمله الدبلوماسي، ثم سرعان ما رحل عني وإخوتي منذ نعومة أظفارنا .. ولكنه وقبل أن يرحل ترك لنا ميراثاً سخياً من سيرته وأشعاره وكتاباته، وكلها تنبض بحب الوطن فأججت لدينا الشعور بالفخر والانتماء والشجن. ولازلت أتشمم رائحة التذكارات الصغيرة وشديدة القدم التي أبت أن تترك أبي واندست في حقائبه الرحالة عندما رحل من مكةالمكرمة مسقط رأسه وبلد الأمن وإشعاع الدين والأدب والحياة. وقد نما لدي الانتماء للمملكة وواكب هذا الانتماء نماؤها وتطورها، وهاهو قلمي يلملم مشاعري المبعثرة في حالة فخر وزهو، أراه يحفر في الأوراق منطلقاً بكل همة وبأحرف نضرة زاهية اللون .. نعم كلماتي ترفع رأسها عالياً عندما أتكلم عن مملكتي الحبيبة. أفخر لما تشهده من طفرة عالية . لعل للبعد ميزة حيث لم تغش عيني المعاصرة ولم تأخذني دوامة التفاصيل اليومية في طياتها، فعن بُعد استطعت أن أرقب وتيرة التنمية السريعة والواعية على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية ، فتلك الخيام والرمال التي كانت تحيط بأبي في الصور المتبقية من تذكاراته تحولت إلى مبان تشق السحب في تحد وصمود. وعلى المستوى العلمي، وبعد أن كان تعليم أبناء المملكة الجامعي يقتصر على ابتعاثهم خارجها ليدرسوا في الجامعات الغربية والعربية منذ ما يقرب من خمسة عقود أصبح الطلاب من جميع أنحاء العالم يقصدون المملكة لدراسة البحث العلمي في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية. وقد تبوأ مؤخراً الملك عبدالله بن عبدالعزيز المرتبة الأولى بين القادة الأكثر شعبية وتأييداً في العالم الإسلامي وذلك وفقاً للاستطلاع الذي أجراه مركز"بيو" الأمريكي ، خبر هزنا جميعاً كمواطنين وأطال من قامتنا بل وحملنا مسئولية كبيرة وخاصة نحن المقيمين خارج حدود المملكة لأن نكون خير سفراء لبلدنا الحبيب بالكد والإخلاص والتفاني في العمل من أجل رفعة شأن الجالية في الخارج، ولم تأت هذه المحبة والتأييد لخادم الحرمين من مواقفه الآنية فقط بل جاءت مما تحلى به من خصال جعلته متربعاً في القلوب على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، وقد تأصلت تلك الخصال الحميدة التي يميزها التسامح والرقي والإنسانية الرفيعة والبسالة والحزم– تأصلت بداخل مليكنا نتيجة ميراث ثري ميز حياته وحياة أسرة آل سعود .. ميراث سطره تاريخ منير للمملكة من الأصالة والتطور معاً. وقد كان المجتمع السعودي يعيش البدائية وفي خلال سنوات قليلة استطاع أن يبهر العالم بما وصل إليه من مستويات راقية في الطب والثقافة والإعلام وفي شتى المجالات. تتميز المملكة بأنها تعمل في صمت، لا تهلل كثيراً للإنجازات ولا تقارن نفسها بغيرها من باب الزهو والاستعلاء، وهي التي استطاعت في سنوات قليلة أن تصبح من البلدان الأولى في العالم في فصل التوائم،- وهذا مثال يؤكد أن المملكة تسير على خطى ثابتة وحكيمة وتحت قيادة رشيدة، وقد أصبحت مقصداً للعلاج في العديد من التخصصات الطبية. والحقيقة عندما نذكر البدائية لا يجب أن ننكر أن المجتمع السعودي له ميراث أدبي ضارب في أعماق التاريخ، فكان مجتمعاً يسمو ويرتقي أدباً وشعراً وثقافة، وكان الشعر يباع في سوق عكاظ، أما العلم فكان من الأهمية بمكان أن يتوج هذا الموروث الثقافي الكبير. وقد كانت أولى كلمات الله عز وجل التي أوحيت لرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام تدعو للقراءة، وحرص عليه الصلاة والسلام على المناداة بالعلم ليستخدم التعليم سلاحاً يعزز به التنمية الحقيقية، لتكون السند والعون في نشر الرسالة السماوية، فقد أعطى المصطف عليه السلام في غزوة بدر الأسرى الحرية وأطلق سراحهم بشرط أن كل من يعرف الكتابة والقراءة فليعلم 10 من المسلمين الأميين، وهي رسالة بالغة الأهمية للمسلمين وقتئذ ودعوة للتعلم والنمو، واعتبرها أحد وسائل تعزيز القوة ودعم الجيوش .. نعم عندما يتعلم الإنسان يستطيع أن يتمكن من أموره، ويستطيع مواجهة الأزمات. ولابد هنا أن نذكر أن قليلين الذين كانوا يجيدون القراءة والكتابة عندما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام برسالة الإسلام. وقد أسس الدولة السعودية الملك عبدالعزير – طيب الله ثراه –موحداً البلاد في أعظم توحيد عربي واضعاً نصب عينيه تحقيق التنمية المستدامة للمجتمع السعودي متبعاً بذلك مبادئ، وتعاقبت الإنجازات التنموية والعلمية في تضافر وتواصل عبر أبنائه؛ رجالات الأسرة المالكة، ولا يفوتنا هنا أن نذكر مؤسس وزارة المعارف الملك فهد رحمه الله وطيب ثراه ، وتعاقبت الإنجازات التعليمية والعلمية إلى أن انطلقت منذ ثلاثة أشهر جامعة الملك عبدالله لتذهل العالم وتوجه رسالة سامية وتصبح منارة للعلم ، تتبنى المبدعين والمخترعين من كافة أنحاء العالم بمختلف أجناسهم ومعتقداتهم ضاربة مثالاً يحتذى لما يجب أن تكون عليه الدولة الإسلامية من سماحة وسعة صدر ودعم للعلم كما دعانا الله تعالى في كتابه الكريم. تطل جامعة الملك عبدالله على ضفاف البحر الأحمر لتبعث للبشرية بخطاب محتواه الكد والجهد والعمل والحرية .. جامعة ستخدم البشرية -بإذن الله- أجمعين .. مبادرة سعودية نتمنى أن تسير على نهجها بقية الدول العربية من حيث الاهتمام بالبحث العلمي، هذا السند الحقيقي في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجماعية والأمنية، وقد ترفع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله – حفظه الله - بقراره إنشاء هذا الصرح على كل المهاترات التي من شأنها كبح جماح المسيرة التنموية ، لم تستطع الأقاويل أن تنال من همتنا ، كان من الممكن أن تبادل المملكة من يلقونها بسهام الاتهامات الباطلة بالأسلوب نفسه وخاصة وهي تمتلك أعتى وأرقى أجهزة الإعلام في الوطن العربي من صحافة وتليفزيون وغيره، التزمت الصمت وأذهلت العالم برد بليغ. فلكم يا مليكنا المفدى كل تقدير وحب .. فأنتم بحكمتكم وصلابتكم فخر لنا نحن أبناء المملكة، فنحن نباهي بها بين بلدان العالم ونفخر بما تبذلونه من جهد دؤوب في تنمية كافة فئات المجتمع واحتضانكم لأكثر الفئات احتياجاً للدعم، وخاصة المرأة التي منحتموها كافة حقوقها؛ كامرأة عاملة وسيدة أعمال وأديبة ومبدعة وفى مختلف المجالات، وهذا ما عهده فيكم كل مواطن منذ كنتم وليا للعهد. مليكنا وملك خدمة البشرية تحية تقدير وفخر وشجن أبعثها إليكم من خارج الوطن. * مستشارة دبلوماسية