سوّغ المترجم "حامد سليم" الشخصية الرئيسة في رواية "المترجم الخائن" ل "فوّاز حداد" عمله في التلاعب بالنصوص الأصلية، وإعادة إنتاجها بما يوافق اللغة المستهدفة في الترجمة، فكان يقوم بتغيير الأحداث، ويفتعل النهايات، ويضفي مشاهد سردية لا وجود لها في الأصول الانجليزية التي يترجمها، فيرى في كل ذلك جهدا يستحق التقدير بدل الإزدراء؛ فلم يخطر لأحد أن تساءل عما يتجشّمه من عناء من جرّاء تحسينات يبذل فيها قريحته وثقافته، ليظهر النصوص المترجمة في سياق الثقافة العربية بأبهى صورها، فذلك الهدف يفوق في أهميته القول بضرورة التزام الدقة في النقل، والأمانة في الترجمة. أقام "حامد سليم" حجته على قاعدة ثقافية ترى أن الفنون والآداب كلها انعكاس للحياة والأحلام والرغبات، تستعين بالصورة، والكلمة، واللون، والخط، والنغمة، فهي جميعها نوع من الترجمة، وعلى هذا فإن عمله من لغة إلى لغة، ما هو إلا انتقال متواصل من وسط أجنبي إلى وسط محلّي مختلف؛ وبهذا سواء عن قصد أو غير قصد، يضيف إلى مهمته عبئا آخر، يحمل من خلاله أفكارا وأساليب عيش من بيئة إلى بيئة مغايرة، ومن مجتمع إلى مجتمع، تقطع فيها مسافات شاسعة، لا تشكّل القارات والمحيطات سوى جانبها السطحي، الأقل شأنا. أما جانبها الخفي، الأخطر شأنا، فالمزيد من التباعد الحاصل بين الشعوب. فبدلا من أن تكون اللغة وسيلة اتصال، تصبح وسيلة التباس. في النص الأصلي، يكتب الكاتب بلغته إلى قارئ من عالمه، ومن الطبيعي ألا يدخل في حسبانه قارئا مجهولا معرفته به محدودة جدا، ولا يُستبعد على الإطلاق، أن ينجم عن عملية التواصل هذه، عكسها، لما يشوبها من تفاوت وتباين، بما تثيره من حيرة وتنبؤات واحتمالات!! بينما القارئ نفسه المجهول بالنسبة إلى المؤلف، معروف بالنسبة إلى المترجم، وعلى هذا من واجب المترجم السعي إلى ردم الهوة بينهما، بعقد تفاهمات بين محيطين ولغتين، بممارسة تأثيراته في العمل الأصلي بترجمة لا يعيبها أن تكون معرّضة للقولبة من جديد على نحو مختلف ولكن ملائم. فلا تنجو من الخطأ البسيط المتعمد، وما قد يبدو سهوا، بينما هو تحيز في الفهم، لا يخلو من قسر، بغية تقريبه إلى القارئ، وبلا شك ستحصد نتائج حميدة على المدى البعيد. تصبح الترجمة وساطة كبرى بين الثقافات، لا يقصد بها الامتثال لقيود لغوية مشدّدة، والتزام حرفي بنصوص مقفلة، إنما هي تكييف متواصل بين تلك الثقافات، وانفتاح عليها، فكل عبور يقتضي شروطا، وليس من الحكمة في شيء التعلّق بالدقة الكاملة في الحفاظ على وسائل التعبير، وإهمال المحتوى الذي يراد نقله من سياق ثقافي إلى آخر، فما يهمّ المترجم هو إعادة إنتاج المتون الأدبية المكتوبة باللغات الأخرى في سياق الثقافة العربية، وذلك يقتضي إضافات تثري تلك المتون، وإهمال التفاصيل الثانوية التي لا قيمة لها في السياق الجديد، وإبراز الأفكار المتوارية إذا كانت لها أهمية في اللغة المستهدفة، ولا بأس من تغيير في بعض الأحداث بما يناسب شروط السياق الذي سوف يتم تداول النصوص فيه، فضلاً عن تكييف النصوص لموقف المترجم، ورغبته في أن تنتهي الأحداث على وجه يطابق رغبته. والحال هذه، فإذا أُخذت كل هذه التعديلات في الحسبان من وجهة نظر مهنية، فسنكون بإزاء مترجم خائن. دفع المترجم عن نفسه شبهة الخيانة التي أثيرت حول ترجماته، لكنه رغب أيضا في أن يجد متنفسا لخواطره ورغباته الإبداعية في تضاعيف نصوص الآخرين "وربما تحرير نزعة دفينة في أعماقه تذهب به إلى التماهي مع الآخرين، والتواري خلفهم". ولم يجد غضاضة في تدخلاته، فهو "ينساق إليها بدافع تأثّره بالبالغ بما يترجمه؛ عندما يتجاوز التحريض طاقته على الاحتمال، ثمة على حد قوله، ما يتكوّن بداخله ويجعله يتفاعل مع الأحداث والأفكار والشخصيات، فينحرف عن المعنى المقصود، إلى معنى إضافي قد لا يعزّز المعنى الأصلي، ويتعارض معه". كان المترجم يرصد الشبهات، ثم يبحث لها عن ذرائع، وحدث أن تجاوز أعراف الترجمة حينما بالغ في التغيير، ففيما كان يترجم رواية لكاتب إفريقي يكتب بالانجليزية، لم ترق له الخاتمة السلبية التي يقرّر فيها الجامعي الأسود بعدما أنهى دراسته في جامعة بريطانية البقاء في العاصمة الانكليزية والعيش في ربوع الحضارة الغربية مع حبيبته البيضاء، ولم يثقل ضميره أن كفاءته تستدعي عودته إلى بلاده التي تركها ترزح في بؤسها!! فما كان من فرط إعجابه بالرواية، وامتعاضه من النهاية، إلا أن غيّر الخاتمة، كي لا يفرّط برواية رائعة، فأصبحت إيجابية: يعود البطل الجامعي الأسود إلى بلاده السوداء تاركا في لندن حبيبته البيضاء. فرضت المرجعية الثقافية للمترجم تغييرا كبيرا في مصير الشخصية الروائية، فإذا كان الرجل الأسود قرر الذوبان في المجتمع الانجليزي، والعيش في لندن برفقة حبيبته البيضاء، من دون أن يأبه بالتركة الاستعمارية التي خلفها الانجليز في بلاده، فذلك أدعى لأن يكون نوعا من تغييب الوعي النقدي عند مستعمَر سابق، فيتدخّل المترجم لإضفاء ذلك الوعي على الشخصية متجاوزا دور الكاتب الإفريقي للنص، فيحدث تغييرا في مصير بطلها الأسود، حينما يدفعه إلى نهاية مغايرة تماما لما ورد في الأصل: ينبغي عليه أن يتماهى مصيره مع حال شعبه، فيترك حبيبته البيضاء، ويعود إلى قارته السوداء؛ ففي سياق ثقافة عانت من التجربة الاستعمارية، لا يحق للشخصيات الروائية أن تتفرّد في اتخاذ قرارات مصيرية تسيء بها إلى شعوبها، ولا يحق ذلك للكتّاب أيضا، وما دام المترجم يهدف إلى وضع هذه الرواية في عهدة قارئ عربي، فينبغي عليه أن يجعل بطل الراوية الإفريقية يتصرّف في إطار توقّعاته، فلا يكون مؤيدا للتجربة الاستعمارية، والعيش في الحاضرة الانجليزية، ولا يجوز له الاقتران بامرأة بيضاء، إنما عليه أن يعود إلى مجتمعه الأصلي. التصقت تهمة المترجم الخائن ب"حامد سليم" لأنه كان يتفاعل مع الشخصيات الروائية، فيسعى إلى إظهارها بأفضل ما ينبغي أن تكون عليه، فيحسّ تجاهها بالعرفان والمحبة، ويحنو عليها، ويرغب في تقديم شيء لها؛ لأنه يريد إثراء ملامحها بأفكاره الشخصية، وترميم الأخطاء في بنيانها بتعديلاته الكتابية، وحجّته أنه "مهما بلغت معرفة الكاتب بالنفس الإنسانية، لا يستطيع إيفاء شخصياته حقّها من التعبير، ثمة تقصير، أحاول تدارك بعضه. أحيانا من شدّة اقترابي منها وتفاعلي معها أتحسّس آلامها، فأحسّ بسوء الحظ الذي لازمها، والظلم الفادح الذي أصابها، أرغب في منحها فرصة ثانية، مما يدفعني إلى إعادة النظر في الرواية وأحداثها وأسلوبها، وتصحيح أمور غابت عن صاحبها، واستكمال نواقص سها عنها.. ما أفعله ناجم عن انغماسي الكلّي فيها، وسعيي إلى تنبؤ تأثير الأحداث عليها. هذا كلّه أمارسه في ذهني من خلال معايشتي لها وتخيّلاتي عنها، فيتسرّب نزر منها ليس بالسير إلى ترجماتي". خرق المترجم الأعراف المتّبعة في مهنة الترجمة، وخالف شروطها الأساسية، وهي دقة النقل، وسلامة التعبير، فرُمي بتهمة الخيانة، وأبعد عن ميدان العمل، فطريقته في الترجمة ألحقت ضررا بسمعة المترجمين، وخرّبت النصوص الأصلية، لكنه لم يحفل بكل ذلك، إنما أراد أن يتفهّم الآخرون حالته النفسية، وموقعه الثقافي، وهو يتولّى الترجمة، فهو يعرف طبيعة الاعتراضات، ولم يغب عنه أمر الدقة، والسلامة اللغوية "لا أغضّ النظر عنهما، اعتني بهما، لكن تداعيات السرد تأخذني معها، والشخصيات تستولي عليّ. تعتمل في داخلي أشياء، تترك أثارا، تولّد أفكارا ومشاعر، أعبّر عنها بترجمة ما أخذ يدور في رأسي عنها، وما أتخيّله بشأنها، أو حتى ما أحلم به. أعلم أنها من تداعيات قريحتي، ما أفعله، أسهم فيه من دون تعمّد، لست مجبرا عليه، بل مدعو إليه. هل أدير ظهري لها؟ لا، بل ألبّي الدعوة، أو، وأقولها صراحة، فقدت عملية الترجمة بالنسبة إلي، جمالها وجاذبيتها ومتعتها. هذا هو عائدها الرئيسي".