أيها الوطن قدرك أن تكون قدوة لغيرك من الدول العربية والإسلامية، وقدر قادتك أن يكونوا في المقدمة، لذا لا يجب أن تبقى بين الدول النامية، فبقاؤك يبقي الآخرين معك، وتقدمك سيكون من أهم محفزات وأسباب تقدمهم، من أرضك انطلقت رسالة الإسلام، ولا تزال أيها الوطن أكبر مؤثر في مجريات أحداث المنطقة وفي ثقافة شعوبها. سعى قادتك منذ تأسيس المملكة على يد موحدها الملك عبدالعزيز رحمه الله إلى استعادة حقوق الشعوب المظلومة وإحلال السلام في كل ربوعها، وسعى قادتك إلى جمع الأطراف المتقاتلة في المناطق المنكوبة من العالم الإسلامي أكثر من مرة، بدءاً بلبنان ثم أفغانستان والصومال وفلسطين، في محاولات متكررة لحقن الدماء وإحلال السلام، وأهمها المبادرة العربية لحل مشكلة الشرق الأوسط المتعثرة، ولو كان هناك عدالة في توزيع الجوائز لكان الملك عبدالله هو الأحق في نيل جائزة نوبل للسلام. وفي مقال سابق أشرت إلى أهمية التعليم في تحقيق الرؤية لتصبح المملكة في مصاف الدول المتقدمة، وذكرت أن من أهم شروط النهوض بالتعليم مرونته وقدرة القائمين عليه على التطوير ومواكبة التقدم الهائل الذي تقوده عقول علماء التربية والتعليم، وأن المعلم هو أهم عوامل نجاح التطوير، لذا لابد من حسن اختياره والعناية به والحرص على إعطائه الدورات المناسبة وابتعاثه للدول المتقدمة لإكسابه المهارات اللازمة للقيام بواجباته المهمة والمتعددة. ومن العوامل المهمة لنهوض الأمة تغيير وتصحيح ثقافتها، فتستبدل عادة الكسل بالنشاط وحب العمل، وضياع الوقت باستثماره، واحتقار الإنسان باحترامه، ويستبدل التواكل بالتوكل مع العمل، واستبدال الأخذ والجشع بالعطاء والإيثار.وترسيخ عادتي القراءة والرياضة وجعلهما أسلوب حياة نكافح من خلالهما أمراض العقل والبدن. ومن المهم أن نعرّف أولاً الثقافة ونبسطها لنكون على يقين مما نتحدث عنه، فالثقافة هي أسلوب حياتنا من عادات وتقاليد واعتقاد، وأخلاق، وما لدينا من أنظمة وفنون وآداب، وكيف نتصرف إزاء المواقف المختلفة. وثقافة الإنسان مكتسبة بعكس الحيوان الذي تسيره غريزة البقاء فيتزاوج ويبني بيته ويحصل على قوته بنفس الطريقة منذ ملايين السنين، فلم نرَ طائراً حاول أن يدخل تحسينات على بناء عشه أو أسلوب حياته، بعكس الإنسان الذي منحه الله العقل ليستثمره ويستمر في تطوير حياته وما يحقق رغباته. وتعد الأسرة من أهم المؤثرات في ثقافة الشعوب، فهي الحاضنة الأولى للطفل وهي المبرمجة الأهم لعقله، سواء بالتلقين والنصح، أو بالمحاكاة والتقليد، فمن نشأ في أسرة تفتقد الاحترام بين أفرادها لن يحترم الآخرين، ومن نشأ في بيئة عنف فسيكون في الغالب عنيفاً مع غيره وخصوصا مع أقاربه وزملائه. ومن نشأ في أسرة أكثر أحاديثها عن السحر والجن والعين سيصبح متشبعا بالخوف من تلك المصائب وسيعزو كل مايصيبه في المستقبل إليها، أما من نشأ في أسرة متعلمة تهتم بالعلم وبالقراءة والرياضة والاعتدال في المأكل والمشرب والتدين فسينشأ في الغالب معتدلاً متزناً صحيح العقل والبدن. أما المؤثر الثاني في ثقافة الأمة فهو المدرسة وما بها من معلمين ومناهج وأنشطة منهجية ولامنهجية ومن زملاء وأصدقاء الطالب أو الطالبة. لكن زراعة عادة حميدة أو محاربة عادة ذميمة ليست من السهولة والبساطة، فالحفظ والتلقين لا يرسخانها، ولو كان كذلك لأصبحنا أكثر الشعوب إنتاجاً انضباطاً ولطفاً لكثرة ما نسمع من نصائح في البيت والمسجد والمدرسة. ترسيخ عادة حميدة بحاجة إلى ممارسة وتكرار حتى تصبح سلوكاً يمارس دون تفكير. يقول أحد التربويين: إحلال العادات الحسنة محل السيئة كنمو الأظافر، يحل الظفر السليم محل الظفر المصاب رويداً رويداً وعلى مدى أشهر حتى يسقط الظفر المصاب. ويقول أحد المسؤولين عن التعليم في المزارع الجماعية في إسرائيل: طلبتنا يمتلكون أفضل المهارات ويفضلهم الجيش الإسرائيلي على غيرهم من الطلبة لأننا نركز على الممارسة والتطبيق، ثم أورد مثالاً معبراً حيث قال: "لن تعلم الطفل السباحة من كتاب". لابد من الممارسة وتصحيح الخطأ حتى يتقن الطالب المهارات اللازمة، وعلى سبيل المثال" كم مرة كررنا "النظافة من الإيمان"؟ لكن إلقاء نظرة واحدة على ساحات مدارسنا بعد كل نشاط وخصوصا بعد الفسح يتضح أن كل ما نقوله يذهب أدراج الرياح، لأننا نقول شيئاً ونطبق غيره، نأتي بعمال النظافة لتنظيف الساحات بعدهم، ومن يرَ دورات المياه في المدارس والمساجد يعرف أن كل ما يردد دون تطبيق ومتابعة يذهب سدى. في الكليات العسكرية لا يسمح لعمال النظافة أن يدخلوا لتنظيف مساكن الطلبة ولا دورات مياههم، بل يقوم الطلبة بذلك وهم من مختلف طبقات المجتمع، وهذا لا يقلل من قيمتهم، بل يزيدهم حماسا وحرصا على نظافة مساكنهم ويعلمهم السلوك الحضاري تطبيقاً وممارسة. تغيير ثقافة المجتمع بحاجة إلى جهود مستمرة من البيت والمسجد والمدرسة، ومن وسائل الإعلام المختلفة. لكن أبلغ الرسائل تأتي من التطبيق والممارسة. نحتاج إلى مدارس نموذجية منتشرة في كل أرجاء الوطن يمارس فيها الطلبة والطالبات ما يراد لهم أن يمارسوه في حياتهم العملية، وبمثل هذا تختفي الكثير من السلبيات ونتقدم بسرعة نحو العالم المتقدم.